الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        من آراء أصحاب الكلام قال أبو محمد : وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرمة ، وأن الله تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب ، كما قال : [ ص: 113 ] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وكما قال : واهجروهن في المضاجع واضربوهن ومنهم من يرى نكاح تسع من الحرائر جائز لقول الله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع قالوا : فهذا تسع ، قالوا : والدليل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسع ، ولم يطلق الله لرسوله في القرآن إلا ما أطلق لنا .

        ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله تعالى إنما حرم لحمه في القرآن فقال : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يحرم شيئا غير لحمه .

        ومنهم من يقول : إن الله تعالى لا يعلم شيئا حتى يكون ، ولا يخلق شيئا حتى يتحرى . فبمن يتعلق من هؤلاء ؟ ومن يتبع وهذه نحلهم ؟ وهكذا اختلافهم ؟ وكيف يطمع في تخلص الحق من بينهم ؟ وهم - مع تطاول الأيام بهم ومر الدهور - على المقايسات والمناظرات لا يزدادون إلا اختلافا ومن الحق إلا بعدا ؟ .

        وكان أبو يوسف يقول : من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب غرائب الحديث كذب .

        روايات لابن قتيبة عن أصحاب الكلام :

        قال أبو محمد : وقد كنت في عنفوان الشباب وتطلب الآداب ، أحب أن أتعلق من كل علم بسبب وأن أضرب فيه بسهم . [ ص: 114 ] فربما حضرت بعض مجالسهم وأنا مغتر بهم طامع أن أصدر عنه بفائدة أو كلمة تدل على خير أو تهدي لرشد ، فأرى من جرأتهم على الله تبارك وتعالى وقلة توقيهم وحملهم أنفسهم على العظائم لطرد القياس ، أو لئلا يقع انقطاع ما ، أرجع معه خاسرا نادما .

        وقد ذكرهم محمد بن بشير الشاعر ، وقد أصاب في وصفهم حين يقول : دع من يقول الكلام ناحية فما يقول الكلام ذو ورع     كل فريق بدوهم حسن
        ثم يصيرون بعد للشنع     أكثر ما فيه أن يقال له
        لم يك في قوله بمنقطع . وقال عبد الله بن مصعب

            ترى المرء يعجبه أن يقولا
        وأسلم للمرء أن لا يقولا     فأمسك عليك فضول الكلام
        فإن لكل كلام فضولا     ولا تصحبن أخا بدعة
        ولا تسمعن له الدهر قيلا     فإن مقالتهم كالظلال
        يوشك أفياؤها أن تزولا     وقد أحكم الله آياته
        وكان الرسول عليها دليلا     وأوضح للمسلمين السبيل
        فلا تتبعن سواها سبيلا [ ص: 115 ]     أناس بهم ريبة في الصدور
        ويخفون في الجوف منها غليلا     إذا أحدثوا بدعة في القرآن
        تعادوا عليها فكانوا عدولا     فخلهم والتي يهضبون
        وولهم منك صمتا طويلا

        . حيرتهم وعدم استقرارهم على رأي :

        قال أبو محمد : وقد كنت سمعت بقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل . وكنت أسمعهم يقولون : إن الحق يدرك بالمقايسات والنظر ، ويلزم من لزمته الحجة أن ينقاد لها . ثم رأيتهم في طول تناظرهم وإلزام بعضهم بعضا الحجة في كل مجلس مرات لا يزولون عنها ولا ينتقلون .

        وسأل رجل من أصحاب هشام بن الحكم رجلا من المعتزلة فقال له أخبرني عن العالم هل له نهاية وحد ؟ فقال المعتزلي : النهاية عندي على ضربين : أحدهما نهاية الزمان من وقت كذا إلى وقت كذا ، والآخر نهاية الأطراف والجوانب وهو متناه بهاتين الصفتين ، ثم قال له : فأخبرني عن الصانع عز وجل هل هو متناه ؟ فقال : محال . قال : فتزعم أنه يجوز أن يخلق المتناهي من ليس بمتناه ؟ فقال : نعم ، قال : فلم لا يجوز أن يخلق الشيء من ليس بشيء ؟ كما جاز أن يخلق المتناهي من ليس بمتناه ؟ [ ص: 116 ] قال : لأن ما ليس بشيء هو عدم وإبطال ، قال له : وما ليس بمتناه عدم وإبطال ، قال : لا شيء ، هو نفي ، قال له : وما ليس بمتناه نفي ، قال : قد أجمع الناس على أنه شيء إلا جهما وأصحابه ، قال : قد أجمع الناس أنه متناه ، قال : وجدت كل شيء متناه محدثا مصنوعا عاجزا ، قال : ووجدت كل شيء محدثا مصنوعا عاجزا ، قال : لما أن وجدت هذه الأشياء مصنوعة علمت أن صانعها شيء ؟ قال : ولما أن وجدت هذه الأشياء متناهية علمت أن صانعها متناه ، قال : لو كان متناهيا كان محدثا إذ وجدت كل متناه محدثا ، قال : ولو كان شيئا كان محدثا عاجزا إذ وجدت كل شيء محدثا عاجزا ، وإلا فما الفرق ؟ فأمسك .

        قال : وسأل آخر آخر عن العلم فقال له : أتقول : إن سميعا في معنى عليم ؟ قال : نعم ، قال : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير هل سمعه حين قالوه ؟ قال : نعم ، قال : فهل سمعه قبل أن يقولوا ؟ قال : لا ، قال : فهل علمه قبل أن يقولوه ؟ قال : نعم ، قال له : فأرى في سميع معنى غير معنى عليم ، فلم يجب .

        [ ص: 117 ] قال أبو محمد : قلت له وللأول : قد لزمتكما الحجة فلم لا تنتقلان عما تعتقدان إلى ما ألزمتكماه الحجة ؟ فقال أحدهما : لو فعلنا ذلك لانتقلنا في كل يوم مرات ، وكفى بذلك حيرة .

        قلت : فإذا كان الحق إنما يعرف بالقياس والحجة ، وكنت لا تنقاد لهما بالاتباع كما تنقاد بالانقطاع ، فما تصنع بهما ؟ التقليد أربح لك والمقام على أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بك .

        اختلافهم في ثبوت الخبر :

        قال : واختلفوا في ثبوت الخبر فقال : بعضهم يثبت الخبر بالواحد الصادق ، وقال آخر : يثبت باثنين لأن الله تعالى أمر بإشهاد اثنين عدلين ، وقال آخر : يثبت بثلاثة لأن الله عز وجل قال : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم قالوا : وأقل ما تكون الطائفة ثلاثة ، وغلطوا في هذا القول ، لأن الطائفة تكون واحدا واثنين وثلاثة وأكثر ، لأن الطائفة بمعنى القطعة ، والواحد قد يكون قطعة من القوم ، وقال الله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين يريد الواحد والاثنين ، وقال آخر : يثبت بأربعة لقول الله تعالى لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء [ ص: 118 ] وقال آخر : يثبت باثني عشر لقول الله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال آخر يثبت بعشرين رجلا لقول الله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وقال آخر يثبت بسبعين رجلا لقول الله عز وجل واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فجعلوا كل عدد ذكر في القرآن حجة في صحة الخبر .

        ولو قال قائل إن الخبر لا يثبت إلا بثمانية لقول الله تعالى في أصحاب الكهف وهم الحجة على أهل ذلك الزمان سبعة وثامنهم كلبهم ولا يجوز أن يكونوا ثمانية حتى يكون الكلب ثامنهم أو قال لا يثبت الخبر إلا بتسعة عشر لقول الله تعالى في خزنة جهنم حين ذكرها فقال عليها تسعة عشر لكان أيضا قولا وعددا مستخرجا من القرآن ، وهذه الاختيارات إنما اختلفت هذا الاختلاف لاختلاف عقول الناس ، وكل يختار على قدر عقله ، ولو رجعوا إلى أن الله تعالى إنما أرسل إلى الخلق كافة رسولا واحدا وأمرهم باتباعه وقبول قوله وأنه لم يرسل اثنين ولا أربعة ولا عشرين ولا سبعين في وقت واحد ، لدلهم ذلك على أن الصادق العدل صادق الخبر ، كما أن الرسول الواحد المبلغ عن الله تعالى صادق الخبر ولم يكن قصدنا لهذا الباب فنطيل فيه .

        [ ص: 119 ] تفسيرهم القرآن :

        قال أبو محمد : وفسروا القرآن بأعجب تفسير ، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم ، ويحملوا التأويل على نحلهم ، فقال فريق منهم في قوله تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض أي علمه ، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر :


        ولا يكرسئ علم الله مخلوق

        كأنه عندهم ولا يعلم علم الله مخلوق . والكرسي غير مهموز ويكرسئ مهموز ، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسيا أو سريرا ويجعلون العرش شيئا آخر ، والعرب لا تعرف العرش إلا السرير ، وما عرش من السقوف والآبار ، يقول الله تعالى : ورفع أبويه على العرش أي : على السرير ، وأمية بن أبي الصلت يقول :


        مجدوا الله وهو للمجد أهل     ربنا في السماء أمسى كبيرا
        بالبناء الأعلى الذي سبق الناس     وسوى فوق السماء سريرا
        شرجعا ما يناله بصر العين     ترى دونه الملائك صورا

        .

        وقال فريق منهم في قول الله تعالى ولقد همت به وهم بها إنها همت بالفاحشة وهم هو بالفرار منها أو الضرب لها والله تعالى [ ص: 120 ] يقول : لولا أن رأى برهان ربه أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها ، فلما رأى البرهان أقام عندها ؟ وليس يجوز في اللغة أن تقول : هممت بفلان وهم بي ، وأنت تريد اختلاف الهمين حتى تكون أنت تهم بإهانته ويهم هو بإكرامك ، وإنما يجوز هذا الكلام إذا اتفق الهمان .

        وقال فريق منهم في قول الله تعالى وعصى آدم ربه فغوى إنه أتخم من أكل الشجرة ، فذهبوا إلى قول العرب : غوى الفصيل يغوى غوى إذا أكثر من شرب اللبن حتى يبشم ، وذلك غوى يغوي غيا ، وهو من البشم ، غوي يغوى غوى .

        وقال فريق منهم في قول الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أي ألقينا فيها . يذهب إلى قول الناس ذرته الريح ولا يجوز أن يكون ذرأنا من ذرته الريح لأن ذرأنا مهموز وذرته الريح تذروه غير مهموز ولا يجوز أيضا أن نجعله من أذرته الدابة عن ظهرها أي ألقته لأن ذلك من ذرأت تقدير فعلت بالهمز وهذا من أذريت تقدير أفعلت بلا همز . واحتج بقول المثقب العبدي : [ ص: 121 ]

        تقول إذا ذرأت لها وضيني     أهذا دينه أبدا وديني

        ، وهذا تصحيف لأنه قال : تقول إذا درأت أي دفعت بالدال غير معجمة وقالوا في قوله عز وجل : وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ، أنه ذهب مغاضبا لقومه استيحاشا من أن يجعلوه مغاضبا لربه مع عصمة الله فجعلوه خرج مغاضبا لقومه حين آمنوا ففروا إلى مثل ما استقبحوا وكيف يجوز أن يغضب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه حين آمنوا وبذلك بعث وبه أمر وما الفرق بينه وبين عدو الله إن كان يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون ولم يخرج مغاضبا لربه ولا لقومه وهذا مبين في كتابي المؤلف في مشكل القرآن ولم يكن قصدي في هذا الكتاب الإخبار عن هذه الحروف وأشباهها وإنما كان القصد به الإخبار عن جهلهم وجرأتهم على الله تعالى بصرف الكتاب إلى ما يستحسنون وحمل التأويل على ما ينتحلون . وقالوا في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا : أي فقيرا إلى رحمته وجعلوا من الخلة بفتح الخاء استيحاشا من أن يكون الله تعالى [ ص: 122 ] خليلا لأحد من خلقه واحتجوا بقول زهير :

        وإن أتاه خليل يوم مسألة     يقول لا غائب مالي ولا حرم

        أي إن أتاه فقير فأية فضيلة في هذا القول لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أما تعلمون أن الناس جميعا فقراء إلى الله تعالى وهل إبراهيم في خليل الله إلا كما قيل موسى كليم الله وعيسى روح الله وقالوا في قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة : إن اليد هاهنا النعمة لقول العرب : لي عند فلان يد أي نعمة ومعروف وليس يجوز أن تكون اليد هاهنا النعمة لأنه قال غلت أيديهم معارضة عما قالوه فيها ثم قال : بل يداه مبسوطتان ، ولا يجوز أن يكون أراد غلت نعمهم بل نعمتاه مبسوطتان لأن النعم لا تغل ولأن المعروف لا يكنى عنه باليدين كما يكنى عنه باليد إلا أن يريد جنسين من المعروف فيقول لي عنده يدان ونعم الله تعالى أكثر من أن يحاط بها .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية