الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 91 ) حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني ? ثنا أبو جعفر النفيلي ? ثنا محمد بن سلمة ? عن محمد بن إسحاق قال : فذكر الزهري ، عن محمد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب الأنصاري ? ثم السلمي ، أن أباه عبد الله بن كعب ، قال : وكان قائد أبيه كعب حين أصيب ببصره ، قال : سمعت أبي كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 47 ] وسلم - في غزوة تبوك وحديث صاحبيه ، قال : " ما تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غيرها قط ، غير أني قد كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر ولم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد .

                                                                  : " ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت غزوة بدر أذكر في الناس منها .

                                                                  كان من حديثي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها في حر شديد ، واستقبل عدوا كثيرا ، فحكى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبير لا يجمعهم كتاب حافظ يعني بذلك كعب الديوان ، يقول : لا يجمعهم ديوان مكتوب ، قال كعب : فقل رجل يريد أن يغيب إلا ظن أنه مستخف له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله - عز وجل - ، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار وراحت الظلال ، فتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجهز المسلمون معه ، وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة ، وأقول في نفسي : إني قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس للغد ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاديا والمسلمون معه ، لم أقض شيئا ، ثم غدوت فرجعت ، ولم أقض شيئا ، فلم يزل كذلك حتى أسرعوا فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت ، ولم أفعل وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر أنه في الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك ، [ ص: 48 ] قال ، وهو جالس في القوم : " أتدرون ما فعل كعب بن مالك ؟ " ، فقال رجل من بني سلمة : نعم ، حبسه برداه والنظر في عطفه ، فقال معاذ بن جبل : تدري ما قلت ؟ ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلا من تبوك حضرني شر فجعلت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدا ؟ ، وأستعين على ذلك بكل من أرى من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أن لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعت أن أصدقه ، فصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم وإيمانهم ، فيستغفر لهم ، وجعل سرائرهم إلى الله - عز وجل - ، حتى جئت فسلمت عليه ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال : " تعال " ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ؟ ، ألم تكن ابتعت ظهرا ؟ " ، قلت : يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطته ، لقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم كذبا لترضى عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه إني لأرجو عفو الله فيه ، والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هذا فقد صدقكم ، قم حتى يحكم الله فيك أمره " ، فقمت وقام معي رجال من بني سلمة فاتبعوني ، فقالوا : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه [ ص: 49 ] المنافقون ، قد كان كافيك منه استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ ، فقالوا : نعم ، رجلان قالا مثل مقالك ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، قلت : من هما ؟ ، قالوا : مرارة بن الربيع ? وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا رجلين صالحين فيهما أسوة ، فصممت حين ذكروهما لي ، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي نفسي والأرض ، فما هي بالأرض التي كنت ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، أما صاحباي فاستكنا وقعدا في بيوتهما ، وأما أنا فكنت أشد الرهط وأجلدهم ، وكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد ، وإني آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على الصلاة نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت : يا أبا قتادة أنشدك الله ، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ ، فسكت ، فعدت له فناشدته ، فسكت ، فعدت له فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، ورحت فتسورت الجدار ، ثم غدوت إلى السوق ، فبينا أنا أمشي في السوق فإذا بنبطي من نبط الشام يسأل عني ممن قدم ببيع الطعام بالمدينة ، يقول : من يدلني على كعب بن مالك ، فجعل الناس يشيرون إلي ، حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكتب كتابا في سرقة من حرير ، فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ، ولا مضيعة ، فالحق بنا [ ص: 50 ] نواسك ، فقلت حين قرأتها : هذا أيضا من البلاء ، قد بلغ بي ما قد وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ، فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها ، فأقمنا على ذلك حتى مضت أربعون ليلة ، إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك ، قلت : أطلاقا أم ماذا ؟ ، قال : بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض ، قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له ، أفتكره أن أخدمه ؟ ، قال : " لا ، ولكن لا يقربنك " ، فقالت : يا رسول الله ما به من حركة إلي ، والله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا ، ولقد تخوفت على بصره ، قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، قلت : لا والله ، لا أستأذنه فيها ، ما يدريني ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إن استأذنته فيها وأنا رجل شاب ، قال : فبتنا على ذلك عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا ، حتى صليت الصبح صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله ، وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، وضاقت علي نفسي ، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع ، فكنت أكون فيها ، إذ سمعت صارخا بأعلى سلع ، يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج ، قال : فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله علينا حين اطلع الفجر ، وقد ذهبت أناس يبشروننا ، فذهب نحو صاحبي مبشر ، وركض رجل إلي فرسا ، وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل ، وكان الصوت أسرع من الفارس ، [ ص: 51 ] فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، نزعت ثوبي فكسوته إياهما بشارة ، والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أتيمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة ويقولون : ليهنك توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله فحياني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب لا ينساها له ، قال كعب : فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووجهه مشرق من السرور ، وقال : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ يوم ولدتك أمك " ، قلت : من عندك يا رسول الله أم من عند الله تبارك وتعالى ؟ ، قال : " بل من عند الله " ، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استبشر حتى كأن وجهه قطعة من قمر ، وكنا نعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه ، قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك " ، قلت : إني أمسك سهمي من خيبر ، فقلت : يا رسول الله ، إن الله أنجاني بالصدق ، وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله في صدق الحديث ما أبلاني منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا ، وأنا أرجو أن يحفظني الله فيما بقي ، وأنزل الله - عز وجل - : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا إلى قوله : وكونوا مع الصادقين ، قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي نعمة بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ، إلا أن أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله قال في الذين كذبوه حين [ ص: 52 ] أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، قال : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ، قال : وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له فصدقهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى ، فذلك قول الله - عز وجل - : وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، وليس الذي ذكر الله لتخلفنا عن الغزو ، ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه ، فقبل منهم
                                                                  . .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية