الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  قصة الإفك ، وما أنزل الله من براءتها

                                                                  ( 133 ) حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة [ ص: 51 ] بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، قال : فبرأها الله ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أرعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، ذكروا أن عائشة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه ، قالت عائشة : فأقرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الله علينا الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل منه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست نحري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فحملوا هودجي فرفعوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أنني فيه ، قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه ورحلوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا به ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتأممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت [ ص: 52 ] حتى أصبحت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فما استيقظت إلا باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما كلمني كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطأ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمت المدينة ، واشتكيت حين قدمتها شهرا والناس يخوضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أن أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما كان يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت ، وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، لا نخرج إلا من ليل إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت تسبين رجلا شهد بدرا ؟ ، فقالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال ؟ ، قلت : وماذا قال ؟ ، قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسلم ثم قال : " كيف [ ص: 53 ] تيكم ؟ " ، قلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ ، قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت فقلت لأمي : يا أمه ما تحدث الناس ؟ ، فقالت : أي بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ ، قالت : نعم ، قالت : فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال : " أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة ؟ " ، فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : لقد أعذرك الله منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام [ ص: 54 ] سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن حملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، فمكثت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يبكيان حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي ، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل ، ولقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء ، قالت : فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه " فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله قد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتى استقر في أنفسكم وصدقتم ، ولئن قلت لكم إني منه بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقونني ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو [ ص: 55 ] يوسف فصبر جميل الآية .

                                                                  قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، قالت : فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى أنه يتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أنزل عليه ، قالت : فلما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك الله " ، فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي ، قالت : فأنزل الله : إن الذين جاءوا بالإفك عشر آيات ، فأنزل الله هذه الآيات براءتي ، قالت : فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية ، فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا ، قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - : " ما علمت وما رأيت ؟ " ، قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك . [ ص: 56 ] قال الزهري : فهذا ما انتهى إلي من أمر هؤلاء الرهط
                                                                  .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية