الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 123 ] الرابعة : ما روياه بالإسناد المتصل فهو المحكوم بصحته ، وأما ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر فما كان منه بصيغة الجزم كقال ، وفعل ، وأمر ، وروى ، وذكر فلان ، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه .

        وما ليس فيه جزم كيروى ، ويذكر ، ويحكى ، ويقال ، وروي ، وذكر ، وحكي عن فلان كذا ، فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه .

        وليس بواه لإدخاله في الكتاب الموسوم بالصحيح .

        [ ص: 131 ]

        التالي السابق


        ( الرابعة ) من مسائل الصحيح ( ما روياه ) أي الشيخان ( بالإسناد المتصل فهو [ ص: 124 ] المحكوم بصحته ، وأما ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر ) وهو المعلق ، وهو في البخاري كثير جدا ، كما تقدم عدده ، وفي مسلم في موضع واحد في التيمم ، حيث قال : وروى الليث بن سعد ، فذكر حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل . الحديث ، وفيه أيضا موضعان في الحدود والبيوع رواهما بالتعليق عن الليث بعد روايتهما بالاتصال ، وفيه بعد ذلك أربعة عشر موضعا كل حديث منها رواه متصلا ، ثم عقبه بقوله : ورواه فلان .

        وأكثر ما في البخاري من ذلك موصول في موضع آخر من كتابه ، وإنما أورده معلقا اختصارا ومجانبة للتكرار والذي لم يوصله في موضع آخر مائة وستون حديثا ، وصلها شيخ الإسلام في تأليف لطيف سماه : " التوفيق " ، وله في جميع التعليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سماه : " تغليق التعليق " ، واختصره بلا أسانيد في آخر سماه : " التشويق إلى وصل المهم من التعليق " .

        [ ص: 125 ] ( فما كان منه بصيغة الجزم كقال وفعل وأمر وروى وذكر فلان فهو حكم بصحته عن المضاف إليه ) لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه إلا وقد صح عنده عنه ، لكن لا يحكم بصحة الحديث مطلقا ، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله ، وذلك أقسام : أحدها : ما يلتحق بشرطه ، والسبب في عدم إيصاله إما الاستغناء بغيره عنه ، مع إفادة الإشارة إليه وعدم إهماله بإيراده معلقا اختصارا ، وإما كونه لم يسمعه من شيخه ، أو سمعه مذاكرة ، أو شك في سماعه ، فما رأى أنه يسوقه مساق الأصول ، ومن أمثلة ذلك قوله في الوكالة : قال عثمان بن الهيثم : حدثنا عون حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة رمضان " . الحديث ، وأورده في فضائل القرآن وذكر إبليس ، ولم يقل في موضع منها : حدثنا عثمان ، فالظاهر عدم سماعه له منه .

        قال شيخ الإسلام : وقد استعمل هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث ، فيوردها منهم بصيغة : قال فلان ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه [ ص: 126 ] وبينهم ، كما قال في التاريخ : قال إبراهيم بن موسى : حدثنا هشام بن يوسف فذكر حديثا ، ثم يقول : حدثوني بهذا عن إبراهيم .

        قال : ولكن ليس ذلك مطردا في كل ما أورده بهذه الصيغة ، لكن مع هذا الاحتمال لا يحل حمل ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمعه من شيوخه .

        وبهذا القول يندفع اعتراض العراقي على ابن الصلاح في تمثيله بقوله قال : عفان ، وقال القعنبي بكونهما من شيوخه ، وأن الرواية عنهم ولو بصيغة لا تصرح بالسماع ، محمولة على الاتصال كما سيأتي في فروع عقب المعضل ، ثم قولنا : في هذا التقسيم ما يلتحق بشرطه ، ولم يقل : إنه على شرطه ؛ لأنه وإن صح فليس من نمط الصحيح المسند فيه ، نبه عليه ابن كثير .



        القسم الثاني : ما لا يلتحق بشرطه ولكنه صحيح على شرط غيره ، كقوله في الطهارة وقالت عائشة : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه . " أخرجه مسلم في صحيحه .

        الثالث : ما هو حسن صالح للحجة كقوله فيه : وقال بهز بن حكيم عن أبيه [ ص: 127 ] عن جده : " الله أحق أن يستحيا منه " وهو حديث حسن مشهور أخرجه أصحاب السنن .

        الرابع : ما هو ضعيف لا من جهة قدح في رجاله ، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده ، قال الإسماعيلي : قد يصنع البخاري ذلك إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه ، وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ ، أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب ، فنبه على ذلك الحديث بتسمية من حدث به لا على التحديث به عنه ، كقوله في الزكاة : وقال طاوس : قال معاذ بن جبل لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب ، الحديث ، فإسناده إلى طاوس صحيح ، إلا أن طاوسا لم يسمع من معاذ .

        وأما ما اعترض به بعض المتأخرين من نقض هذا الحكم بكونه جزم في معلق وليس بصحيح ، وذلك قوله في التوحيد ، وقال الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفاضلوا بين الأنبياء " الحديث ، فإن أبا مسعود الدمشقي جزم بأن هذا ليس بصحيح ؛ لأن عبد الله بن الفضل إنما رواه عن الأعرج عن أبي هريرة لا عن أبي سلمة . وقوى ذلك بأنه أخرجه في موضع آخر كذلك ، فهو اعتراض مردود ، ولا ينقض القاعدة ، ولا مانع من أن يكون لعبد الله بن الفضل شيخان وكذلك أورده عن أبي سلمة الطيالسي [ ص: 128 ] في مسنده فبطل ما ادعاه .

        ( وما ليس فيه جزم كيروى ويذكر ويحكى ويقال وروي وذكر وحكي عن فلان كذا ) كذا قال ابن الصلاح : أو في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه ) .

        قال ابن الصلاح : لأن مثل هذه العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضا ، فأشار بقوله : أيضا إلى أنه ربما يورد ذلك فيما هو صحيح ، إما لكونه رواه بالمعنى ، كقوله في الطب : ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى بفاتحة الكتاب ، فإنه أسنده في موضع آخر بلفظ : أن نفرا من الصحابة مروا بحي فيه لديغ ، فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب ، وفيه : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " .

        أو ليس على شرطه كقوله في الصلاة : ويذكر عن عبد الله بن السائب قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون " في صلاة الصبح ، حتى إذا جاء ذكر [ ص: 129 ] موسى وهارون أخذته سعلة فركع " ، وهو صحيح أخرجه مسلم ، إلا أن البخاري لم يخرج لبعض رواته .

        أو لكونه ضم إليه ما لم يصح فأتى بصيغة تستعمل فيهما ، كقوله في الطلاق ويذكر عن علي بن أبي طالب وابن المسيب وذكر نحوا من ثلاثة وعشرين تابعيا .



        وقد يورده أيضا في الحسن كقوله في البيوع : ويذكر عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا بعت فكل ، وإذا ابتعت فاكتل " هذا الحديث رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن المغيرة ، وهو صدوق ، عن منقذ مولى عثمان ، وقد وثق ، عن عثمان ، وتابعه سعيد بن المسيب ، ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند ، إلا أن في إسناده ابن لهيعة ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان ، وفيه انقطاع ، والحديث حسن لما عضده من ذلك .

        ومن أمثلة ما أورده من ذلك وهو ضعيف قوله في الوصايا : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالدين قبل الوصية ، وقد رواه الترمذي موصولا من طريق الحارث عن علي ، والحارث ضعيف .

        [ ص: 130 ] وقوله في الصلاة : ويذكر عن أبي هريرة رفعه : لا يتطوع الإمام في مكانه ، وقال عقبه : ولم يصح ، وهذه عادته في ضعيف لا عاضد له من موافقة إجماع أو نحوه ، على أنه فيه قليل جدا ، والحديث أخرجه أبو داود من طريق الليث بن أبي سليم عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة ، وليث ضعيف ، وإبراهيم لا يعرف ، وقد اختلف عليه فيه .

        ( و ) ما أورده البخاري في الصحيح مما عبر عنه بصيغة التمريض ، وقلنا لا يحكم بصحته ( ليس بواه ) أي ساقط جدا ( لإدخاله ) إياه ( في الكتاب الموسوم بالصحيح ) ، وعبارة ابن الصلاح : ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح يشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه .

        قلت : ولهذا رددت على ابن الجوزي حيث أورد في الموضوعات حديث ابن عباس مرفوعا : إذا أتي أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها ، فإنه أورده من طريقين عنه ، ومن طريق عن عائشة ولم يصب ، فإن البخاري أورده في الصحيح فقال : ويذكر عن ابن عباس ، وله شاهد آخر من حديث الحسن بن علي رويناه في فوائد أبي بكر الشافعي ، وقد بينت ذلك في مختصر الموضوعات ، ثم في كتابي " القول الحسن في الذب عن السنن " .



        [ ص: 131 ] [ فائدة ]

        قال ابن الصلاح : إذا تقرر حكم التعاليق المذكورة فقول البخاري : ما أدخلت في كتابي إلا ما صح ، وقول الحافظ أبي نصر السجزي : أجمع الفقهاء وغيرهم أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع البخاري صحيح ، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه ، لم يحنث ، محمول على مقاصد الكتاب وموضوعه ، ومتون الأبواب المسندة دون التراجم ونحوها . اهـ .

        وسيأتي في المسألة مزيد كلام قريبا ، ويأتي تحرير الكلام في حقيقة التعليق حيث ذكره المصنف عقب المعضل إن شاء الله تعالى .




        الخدمات العلمية