الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 181 ] فصل

[ ما يباح به الإفطار ]

ومن خاف المرض أو زيادته أفطر ، والمسافر صومه أفضل ، ولو أفطر جاز ، فإن ماتا على حالهما لا شيء عليهما ، وإن صح وأقام ثم ماتا لزمهما القضاء بقدره ، ويوصيان بالإطعام عنهما لكل يوم مسكينا كالفطرة; والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أو نفسيهما أفطرتا وقضتا لا غير; والشيخ الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم; ومن جن الشهر كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق بعضه قضى ما فاته ; وإن أغمي عليه رمضان كله قضاه ، ويلزم صوم النفل بالشروع ( ف ) أداء وقضاء ، وإذا طهرت الحائض ، أو قدم المسافر ، أو بلغ الصبي ، أو أسلم الكافر في بعض النهار أمسك بقيته ، وقضاء رمضان إن شاء تابع وإن شاء فرق ، فإن جاء رمضان آخر صامه ثم قضى الأول لا غير ، ومن نذر صوم يومي العيد وأيام التشريق لزمه ويفطر ويقضي ، ولو صامها أجزأه .

التالي السابق


فصل

( ومن خاف المرض أو زيادته أفطر ) بقوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) معناه : فأفطر فعدة من أيام أخر ؛ لأن المرض والسفر لا يوجبان القضاء .

( والمسافر صومه أفضل ) لأنه عزيمة والأخذ بالعزيمة أفضل . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " المسافر إذا أفطر رخصة ، وإن صام فهو أفضل " .

( ولو أفطر جاز ) لما تلونا . ولو أنشأ السفر في رمضان جاز بالإجماع ، وإن سافر بعد طلوع الفجر لا يفطر ذلك اليوم لأنه لزمه صومه إذ هو مقيم فلا يبطله باختياره ، فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة ، بخلاف ما إذا مرض ؛ لأن العذر جاء من قبل صاحب الحق .

قال : ( فإن ماتا على حالهما لا شيء عليهما ) لأنه - تعالى - أوجب عليهما صيام عدة من أيام أخر ولم يدركاها ، ولأن المرض والسفر لما كانا عذرا في إسقاط الأداء دفعا للحرج ، فلأن يكون الموت عذرا في إسقاط القضاء أولى .

قال : ( وإن صح وأقام ثم ماتا لزمهما القضاء بقدره ) لأنهما بذلك القدر أدركا عدة من أيام أخر .

قال : ( ويوصيان بالإطعام عنهما لكل يوم مسكينا كالفطرة ) لأنه وجب عليهما صومه بإدراك العدة ، فإن لم يوصيا لم يجب على الورثة الإطعام لأنها عبادة فلا تؤدى إلا بأمره ، وإن فعلوا جاز ويكون له ثواب ذلك .

[ ص: 182 ] قال : ( والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أو نفسيهما أفطرتا وقضتا لا غير ) قياسا على المريض ، والجامع دفع الحرج والضرر .

( والشيخ الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم ) لأنه عاجز ولا يرجى له القضاء فانتقل فرضه إلى الإطعام كالميت ، وقد قيل في قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية ) أي لا يطيقونه .

قال : ( ومن جن الشهر كله فلا قضاء عليه ) لأنه لم يشهد الشهر وهو السبب لأنه غير مخاطب ، ولهذا يصير موليا عليه .

( وإن أفاق بعضه قضى ما فاته ) لأنه شهد الشهر ؛ لأن المراد من قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) شهود بعضه ؛ لأنه لو أراد شهود كله لوقع الصوم بعده وأنه خلاف الإجماع .

قال : ( وإن أغمي عليه رمضان كله قضاه ) لأنه مرض يضعف القوى ولا يزيل العقل ، ولهذا لا يصير موليا عليه فكان مخاطبا فيقضيه كالمريض ألا ترى أنه - عليه الصلاة والسلام - كان معصوما عن الجنون ، قال تعالى : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) وقد أغمي عليه في مرضه .

قال : ( ويلزم صوم النفل بالشروع أداء وقضاء ) وقد مر وجهه في الصلاة .

قال : ( وإذا طهرت الحائض أو قدم المسافر أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في بعض النهار أمسك بقيته ) ولا يجب صوم ذلك اليوم على الصبي والكافر ، ولو صاموه لم يجزهم لانعدام الأهلية في أوله ، والأداء لا يجزي إلا في المسافر إذا قدم قبل نصف النهار ونوى جاز صومه لأنه أهل في أوله . وأما إمساك بقية يومه لئلا يتهمه الناس ، والتحرز عن مواضع التهم واجب . قال عليه [ ص: 183 ] .

الصلاة والسلام : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم " .

قال : ( وقضاء رمضان إن شاء تابع وإن شاء فرق ) لأن قوله تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) لم يشرط فيه التتابع وهو أفضل مسارعة إلى إسقاط الفرض .

( فإن جاء رمضان آخر صامه ) لأنه وقته .

( ثم قضى الأول لا غير ) لأن جميع السنة وقت القضاء إلا الأيام الخمسة ، ولا يجب عليه غير القضاء ؛ لأن النص لم يوجب شيئا آخر .

قال : ( ومن نذر صوم يومي العيد وأيام التشريق لزمه ويفطر ويقضي ) لأنه نذر بقربة وهو الصوم ، وأضافها إلى وقت مشروع فيه تلك القربة ، فيلزم كالنذر بالصلاة في الوقت المكروه ، وليس النذر معصية ، إنما المعصية أداء الصوم فيها ، والدليل على الشرعية قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ألا لا تصوموا في هذه الأيام " نهى عن الصوم الشرعي والنهي يقتضي القدرة ؛ لأن النهي عن غير المقدور قبيح ؛ لأن قوله للأعمى لا تبصر ، وللآدمي لا تطر - قبيح لما أنه غير مقدور ، وإذا اقتضى النهي القدرة كان الصوم الشرعي مقدورا في هذه الأيام ، فيصح النذر إلا أنه منهي عنه ، فقلنا : إنه يفطر فيها تحرزا عن ارتكاب النهي ويقضي ليخرج عما وجب عليه .

( ولو صامها أجزأه ) لأنه أداه كما التزمه ، كما إذا قال : لله علي أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء فأعتقها خرج عن العهدة ، وإن كان إعتاقها لا يجزي عن شيء من الواجبات .

ولو قال : لله علي أن أصوم هذه السنة أفطر العيدين وأيام التشريق وقضاها لما بيناه ، وكذلك لو نذر سنة متتابعة ، ولو نذر سنة بغير عينها يلزم صوم اثني عشر شهرا متفرقة ؛ لأن السنة المنكرة اسم لأيام معدودة فلم يكن مضافا إلى رمضان ، وفي المعينة إضافة إلى كل شهر منها ، فلم تصح الإضافة إلى رمضان فلا يجب قضاؤه ، والله أعلم .




الخدمات العلمية