الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 616 ] فصل

[ ميراث الحمل ]

والحمل يرث ويوقف نصيبه .

التالي السابق


[ ص: 616 ] فصل

[ ميراث الحمل ]

( والحمل يرث ويوقف نصيبه ) بإجماع الصحابة ، ولأنه يحتمل وجوده فيرث ، ويحتمل عدمه فلا يرث فيوقف حتى يتبين بالولادة احتياطا ، فإن ولد إلى سنتين حيا ورث لأنه عرف وجوده وإن احتمل حدوثه بعد الموت لكن جعل موجودا قبل الموت حكما حتى يثبت نسبه لقيام الفراش في العدة ، وهذا إذا كان الحمل من الميت ، فأما إذا كان من غير الميت ، كما إذا مات وأمه حامل من غير أبيه وزوجها حي ، فإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يرث لاحتمال حدوثه بعد الموت فلا يرث بالشك إلا أن تقر الورثة بحملها يوم الموت ، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر فإنه يرث لأنا تيقنا بوجوده عند موته .

ثم الحمل لا يخلو إما أن يكون ممن يحجب حجب حرمان أو حجب نقصان أو يكون مشاركا لهم ، فإن كان يحجب حجب حرمان ، فإن كان يحجب الجميع كالإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم توقف جميع التركة إلى أن تلد لجواز أن يكون الحمل ابنا ، وإن كان يحجب البعض كالإخوة والجدة تعطى الجدة السدس ويوقف الباقي ، وإن كان يحجب حجب نقصان كالزوج والزوجة يعطون أقل النصيبين ويوقف الباقي ، وكذلك يعطى الأب السدس لاحتمال أنه ابن ، وإن كان لا يحجبهم كالجد والجدة يعطون نصيبهم ويوقف الباقي ، وإن كان لا يحجبهم ولكن يشاركهم بأن ترك بنين أو بنات وحملا .

روى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يوقف له نصيب أربعة من البنين أو البنات أيهما أكثر لأنه قد وقع ذلك فيوقف ذلك احتياطا ، وكان شريك بن عبد الله ممن حملت به أمه مع ثلاثة . وروى هشام عن أبي يوسف وهو قول محمد أنه يوقف نصيب ابنين لأنه كثير الوقوع وما زاد عليه نادر فلا اعتبار به . وروى الخصاف عن أبي يوسف وهو قوله أنه يوقف نصيب ابن واحد وعليه الفتوى لأنه الغالب المعتاد وما فوقه محتمل ، والحكم مبني على الغالب دون المحتمل ، فإن ترك ابنين وحملا ، فعلى قول ابن المبارك يوقف ثلثا المال ، وعلى قول محمد نصف المال [ ص: 617 ] وعلى قول أبي يوسف ثلث المال ، وإن ولد ميتا لا حكم له ولا إرث ، وإنما تعرف حياته بأن تنفس كما ولد أو استهل بأن سمع له صوت أو عطس أو تحرك عضو منه كعينيه أو شفتيه أو يديه ; لأن بهذه الأشياء تعلم حياته ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه " ، فإن خرج الأكثر حيا ثم مات ورث ، وبالعكس لا اعتبارا للأكثر ، فإن خرج مستقيما فإذا خرج صدره ورث ، وإن خرج منكوسا يعتبر خروج سرته ، وإن مات بعد الاستهلال ورث وورث عنه .



فصل

المفقود

وقد ذكرنا أحكامه وما يتعلق به حال حياته ، ومتى يحكم بموته في بابه ، ونذكر هنا ما يختص بالإرث فنقول : من مات في حال فقده ممن يرثه المفقود يوقف نصيب المفقود إلى أن يتبين حاله لاحتمال بقائه ، فإذا مضت المدة التي تقدم ذكرها على ما فيها من الاختلاف ولم يعلم حاله وحكمنا بموته قسمت أمواله بين الموجودين من ورثته كما بينا ، وأما الموقوف من تركة غيره فإنه يرد على ورثة ذلك الغير ويقسم بينهم كأن المفقود لم يكن لأنا تيقنا بكونهم وارثين وشككنا فيه ، فكان توريثهم أولى لأن الشك لا يعارض اليقين .

والأصل في ذلك إن كان معه وارث يحجب به لا يعطى شيئا ، وإن كان لا يحجب ولكن ينقص يعطى أقل النصيبين ويوقف الباقي .

مثاله : مات عن بنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن ، يعطى البنتان النصف لأنه متيقن ويوقف النصف الآخر ، ولا يعطى ولد الابن شيئا لأنهم يحجبون به فلا يعطون بالشك ، وإن كان معه وارث لا يحجب كالجد والجدة يعطى كل نصيبه كما في الحمل .



فصل

الخنثى

قد سبق في كتاب الخنثى صورته وأحكامه والاختلاف فيه والدليل على توريثه من مثاله ، [ ص: 618 ] ونذكر الآن أحكام ميراثه . والأصل فيه أن أبا حنيفة - رحمه الله - يعطيه أخس النصيبين في الميراث احتياطا ، فلو مات أبوه وتركه وابنا فللابن سهمان وله سهم ، ولو تركه وبنتا فالمال بينهما نصفان فرضا وردا . أخت لأب وأم وخنثى لأب وعصبة ، للأخت النصف وللخنثى السدس تكملة الثلثين كالأخت من الأب والباقي للعصبة . زوج وأم وخنثى لأبوين : للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للخنثى ويجعل ذكرا لأنه أقل . زوج وأخت لأبوين وخنثى لأب : سقط ويجعل عصبة لأنه أسوأ الحالين . وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : للخنثى نصف نصيب ذكر ونصف نصيب أنثى عملا بالشبهين ، وهو قول الشعبي .

مثاله : ابن وخنثى . قال محمد على قول الشعبي : المال بينهما على اثني عشر سهما للابن سبعة وللخنثى خمسة . وقال أبو يوسف - رحمه الله - : على سبعة ، للابن أربعة ، وللخنثى ثلاثة ; لأن الابن عند الانفراد يستحق جميع المال ، والخنثى يستحق ثلاثة أرباعه ، فإذا اجتمعا يقسم بينهما على قدر حقيهما فيضرب هذا بأربعة وهذا بثلاثة فيكون سبعة . ولمحمد - رحمه الله - أن الخنثى لو كان ذكرا كان المال بينهما نصفين ، ولو كان أنثى كان أثلاثا فيحتاج إلى حساب له نصف وثلث وأقله ستة ، فلو كان الخنثى ذكرا يكون له ثلاثة ، ولو كان أنثى فاثنان فسهمان له بيقين ووقع الشك في سهم فينصف فيكون له سهمان ونصف فيضعف ليزول الكسر فتصير اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة ، وعلى هذا تخرج جميع مسائل الخنثى .



فصل

[ موانع الإرث ]

قد ذكرنا أن الموانع من الإرث : الرق ، والقتل ، واختلاف الملتين والدارين حكما . أما الرق فلأن العبد لا ملك له وليس من أهل الملك والتملك ، وكذلك المكاتب . قال - عليه الصلاة والسلام - : " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " فلا يرث ولا يورث ولا يحجب ، فإن مات وترك وفاء أدي عنه بدل الكتابة والباقي لورثته على ما عرف في بابه ، والمستسعى كالمكاتب عنده ، وقد مر في العتق .

[ ص: 619 ] وأما الكفر ، فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يتوارث أهل ملتين شتى ، لا يرث كافر من مسلم ، ولا مسلم من كافر " ، والكفر كله ملة واحدة يرث بعضهم بعضا وإن اختلفت شرائعهم . روى سعيد بن جبير عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : الكفر كله ملة واحدة ولأن الكفر كله ضلال وهو ضد الإسلام فيجعل ملة واحدة ، ويتوارثون بما يتوارث به أهل الإسلام من الأسباب إلا الأنكحة الباطلة ، واختلاف الدارين حقيقة أن يكون لكل دار ملك على حدة ويرى كل واحد منهما قتال الآخر كالروم والصين ; لأن عند ذلك تكون الولاية منقطعة فيما بينهم كدار الإسلام ودار الحرب .

أهل الذمة وأهل الحرب لا توارث بينهم ، سواء كان الحربي في دارهم أو مستأمنا عندنا لا يرث الذمي ولا يرثه الذمي لانقطاع الولاية فيما بين أهل الدارين ; لأن الحربي باق على حكم حربه فإنه لا يمنع من العود إلى داره ، وهذا معنى اختلاف الدارين حكما ، وإذا مات المستأمن عندنا وترك مالا يجب أن نبعثه إلى ورثته وفاء بمقتضى الأمان ، ومن مات من أهل الذمة ولا وارث له فماله لبيت المال لأنه لا مستحق له ، وميراث المرتد وأحكامه مر في السير . وأما القتل فالقاتل مباشرة بغير حق لا يرث من مقتوله عمدا كان أو خطأ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة " من غير فصل بين العمد والخطأ ، وقتل الصبي والمجنون والمعتوه والمبرسم والموسوس لا يوجب حرمان الميراث لأن الحرمان ثبت جزاء قتل محظور ، وفعل هؤلاء ليس بمحظور لقصور الخطاب عنهم فصار كالقتل بحق ، والحديث خص عنه القتل بحق فتخص هذه الصور بظاهر آيات المواريث ، وظاهر الآيات أقوى من ظاهر الحديث . والتسبيب إلى القتل لا يحرم الميراث كحافر البئر وواضع الحجر وصب الماء في الطريق ونحوه ; لأن حرمان الميراث يتعلق بالقتل حقيقة والتسبيب ليس قتلا حقيقة لأن القتل ما يحل في الحي فيؤثر في انزهاق الروح ، والتسبيب ليس كذلك لأنه فعل في غيره تعدى أثره إليه ، وصار كمن أوقد نارا في داره فأحرق دار جاره لا ضمان عليه ، وكل قتل أوجب القصاص أو الكفارة كان مباشرة [ ص: 620 ] فيحرم به الميراث ، وما لا يوجب ذلك فهو تسبيب لا يحرم الميراث ، والراكب مباشر لأن ثقله وثقل الدابة اتصل بالمقتول فكأنهما وطئاه جميعا ، والنائم ينقلب على مورثه فيقتله مباشرا ، والقائد والسائق مسبب لأنه لم يتصل ثقله بالمقتول فلا يكون مباشرا ، وفي قتل الباغي العادل وعكسه تفصيل وخلاف عرف في السير بتوفيق الله تعالى .




الخدمات العلمية