الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثالث

                                                                                                                في فضائله ، وهي سبعة :

                                                                                                                الفضيلة الأولى : التسمية : قال صاحب الطراز : استحسنها مالك - رحمه الله - مرة ، وأنكرها مرة ، وقال : أهو يذبح ؟ ما علمت أحدا يفعل ذلك ، ونقل ابن شاس عنه التخيير ، وعن ابن زياد الكراهة .

                                                                                                                وأفعال العبد على ثلاثة أقسام : منها ما شرعت فيه التسمية ، ومنها ما لم تشرع فيه ، ومنها ما تكره فيه .

                                                                                                                الأول : كالغسل ، والوضوء ، والتيمم على الخلاف ، وذبح النسك ، وقراءة القرآن ، ومنه مباحات ليست بعبادات كالأكل ، والشرب ، والجماع .

                                                                                                                والثاني : كالصلوات ، والأذان ، والحج ، والعمرة ، والأذكار ، والدعاء .

                                                                                                                [ ص: 285 ] والثالث : المحرمات ، إذ الغرض من التسمية حصول البركة في الفعل المشتمل عليها ، والحرام لا يراد كثرته ، وكذلك المكروه .

                                                                                                                وهذه الأقسام تتحصل من تفاريع أبواب الفقه في المذهب ، فما ضابط ما شرع فيه التسمية من القربات ، والمباحات مما لم يشرع فيه ؟

                                                                                                                قلت : وقع البحث في هذا الفصل مع جماعة من الفضلاء ، وعسر الفرق ، وإن كان بعضهم قد قال : إنها لم تشرع مع الأذكار ، وما ذكر معها لأنها بركة في نفسها .

                                                                                                                ورد عليه أن القرآن من أعظم البركات مع أنها شرعت فيه .

                                                                                                                والأصل في شرعيتها في الوضوء قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) خرجه أبو داود ، والترمذي إلا أنه لا أصل له ، وقال ابن حنبل بوجوبها مع أن الترمذي قال عنه : لا أعرف في هذا الباب حديثا جيد الإسناد .

                                                                                                                الفضيلة الثانية : في الجواهر : السواك ؛ لما في الموطأ أنه عليه السلام قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) وفي أبي داود كان يوضع له - صلى الله عليه وسلم - وضوؤه ، وسواكه .

                                                                                                                والكلام في وقته ، وآلته ، وكيفيته .

                                                                                                                أما وقته ، فقال صاحب الطراز : يستاك قبل الوضوء ، ويتمضمض بعده ليخرج الماء بما ينثره السواك ، ولا يختص السواك بهذه الحالة بل في الحالات التي يتغير فيها الفم كالقيام من النوم ، أو بتغيير الفم لمرض ، أو وجع ، أو صمت كثير ، أو مأكول متغير .

                                                                                                                وأما الآلة ، فهي عيدان الأشجار لأنه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنة السلف ، أو بأصبعه إن لم يجد ، ويفعل ذلك مع الماء في المضمضة لأنه يخفف القلح .

                                                                                                                [ ص: 286 ] والقلح صفرة الأسنان ، فإن استاك بأصبع ، فجعلها سواكا للسن أولى من جعل السن سواكا للأصبع ، ويتجنب من السواك ما فيه أذى للفم كالقصب ، فإنه يجرح اللثة ، ويفسدها ، وكالريحان ، ونحوه مما يقول الأطباء فيه فساد ، وقد نص على ذلك جماعة من العلماء .

                                                                                                                وأما كيفيته فيروى عنه عليه الصلاة والسلام : ( استاكوا عرضا ، وادهنوا غبا - أي يوما بعد يوم - واكتحلوا ، وترا ) ، فالسواك عرضا أسلم للثة من التقطع ، والأدهان إن كثرت تفسد الشعر ، وتنثره .

                                                                                                                والسواك ، وإن كان معقول المعنى ، فعندي أنه ما عري من شائبة تعبد من جهة أن الإنسان لو استعمل الغسولات الجلاءة عوضا من العيدان لم يأت بالسنة .

                                                                                                                الفضيلة الثالثة : في التلقين : تكرار المغسول ، وقوله في الكتاب : لم يوقت مالك - رحمه الله - في التكرار إلا ما أسبغ . قال صاحب الطراز وغيره : يريد به نفي الوجوب لا نفي الفضيلة ، وكذلك قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت ، قال صاحب التنبيهات : التوقيت التقدير من الوقت ، وهو المقدار من الزمان ، فمعناه لم يقدر عددا قال : ومن الناس من قال : معناه : لم يوجب ؛ من قوله تعالى : ( كتابا موقوتا ) أي : فرضا لازما ، وليس بصواب ، وروي عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ، وقال : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) فأثبت القبول عند ثبوته ، فدل ذلك على عدم وجوب غيره ، ويروى عنه عليه السلام : ( مرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ) أخرجه البخاري ، ومسلم ، قال اللخمي : فالأولى واجبة ، والثانية سنة ، والثالثة فضيلة ، والرابعة مخترعة إذا أتى بها عقيب الثالثة ، أو بعد ذلك ، وقبل الصلاة بذلك الوضوء ، فإن صلى به كان تجديد الوضوء فضيلة لقوله عليه السلام : ( الوضوء على الوضوء نور على نور ) وقوله في الرابعة : [ ص: 287 ] ( فمن زاد ، أو استزاد ، فقد تعدى وظلم ) ، والتجديد زيادة فيجمع بينهما بهذه الطريقة ، ودليل تحريم الرابعة قوله عليه السلام لما توضأ ثلاثا : ( هذا وضوئي ، ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبي إبراهيم ، فمن زاد ، أو استزاد ، فقد تعدى وظلم ) قال صاحب المقدمات قال الأصيلي : ليس هذا بثابت .

                                                                                                                والوضوء من خصائص هذه الأمة قال ابن رشد : إن صح الحديث فيكون معنى ما روي في الغرة ، والتحجيل ، ويكون الاختصاص بالغرة لا بالوضوء ، وأما قوله عليه السلام : ( فمن زاد ، أو استزاد ) فيحتمل معنيين : أحدهما التأكيد ، ويكون المراد بهما واحدا ، والثاني : أن يكون استزاد من باب الاستفعال ، وهو طلب الفعل ، والإنسان له حالتان : تارة يتوضأ بنفسه فيقال : إنه زاد الرابعة ، وتارة يستعين بغيره في سكب الماء ، وغيره فيطلب من ذلك الغير زيادة الرابعة فيقال : له استزاد .

                                                                                                                وجوز مالك - رحمه الله - في المدونة الاقتصار على الواحدة ، وقال أيضا : لا أحبها إلا من عالم ، يعني لأن من شرط الاقتصار عليها الإسباغ ، وذلك لا يضبطه إلا العلماء ، وإذا لم يسبغ ، وأسبغ في الثانية كان بعض الثانية فرضا ، وهو ما حصل به الإسباغ في بقية الأولى ، وبقيتها فضيلة ، وهو ما عدا ذلك ، وإلى أن يأتي برابعة تختص بها المواضع المتروكة أولا ، ولا تعم لئلا يقع في النهي .

                                                                                                                فرع : في الجواهر : إذا شك في أصل الغسل ابتدأه لأنه في عهدة الواجب حتى يفعله ، وإن شك هل هي ثالثة ، أو رابعة ؟ قال المازري : تنازع الأشياخ في فعلها هل تكره مخافة أن تكون محرمة ، أو لا تكره ; لأن الأصل بقاء المأمور به من الطهارة متوجها على الإنسان ، والبناء على اليقين في الطهارة ، وركعات الصلاة من العدد فيصلي الركعة ، وإن شك هل هي رابعة واجبة ، أو خامسة محرمة ، ويلحق بهذا صوم التاسع من ذي الحجة إذا شك فيه ، فإنه دائر بين المندوب ، والمحرم .

                                                                                                                [ ص: 288 ] قاعدة : إذا تعارض المحرم ، وغيره من الأحكام الأربعة قدم المحرم لوجهين : أحدهما أن المحرم لا يكون إلا لمفسدة ، وعناية الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح ، ولأن تقديم المحرم يفضي إلى موافقة الأصل ، وهو الترك ، فمن لاحظ هذه القاعدة قال بالترك ، ومن قال يغسل يقول : المحرم رابعة بعد ثالثة متيقنة ، ولم يتيقن ثالثة ، فلا يحرم ، وكذلك القول في الصوم ، وما أظن في الصلاة خلافا ، والله أعلم .

                                                                                                                الفضيلة الرابعة : الاقتصاد ، والرفق بالماء مع الإسباغ ، والإسباغ : التعميم ، ومنه قوله تعالى : ( وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) أي عممها .

                                                                                                                وأنكر مالك في المدونة قول من قال : حد الوضوء أن يقطر ، أو يسيل . قال ابن يونس : أي أنكر التحديد قال مالك : رأيت عباسا - قال صاحب التنبيهات : عباس بباء واحدة من تحتها ، وسين مهملة ، ومن الشيوخ من يقول عياشا بالياء ، والشين ، وهو خطأ - يتوضأ بثلث مد هشام ، ويفضل له منه ، ويصلي بالناس ، وأعجبني ذلك ، وفي البخاري كان عليه السلام يغتسل بالصاع ، ويتوضأ بالمد ، قال بعض العلماء : إذا كان المغتسل معتدل الخلق كاعتدال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يزيد في الماء على المد في الوضوء ، والصاع في الغسل ، وإن كان ضئيلا ، فليستعمل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده عليه الصلاة والسلام ، فإن تفاحش الخلق ، فلا ينقص عن مقدار أن يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد ، والصاع إلى جسده - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                الفضيلة الخامسة : قال ابن يونس : أن يجتنب الخلاء لنهيه عليه السلام عن ذلك مخافة الوسواس .

                                                                                                                الفضيلة السادسة : قال ابن يونس : يجعل الإناء عن اليمين لفعله عليه [ ص: 289 ] السلام لذلك ، ولأنه أمكن ، واعلم أن هذه المكنة إنما تتصور في الأقداح ، وما تدخل الأيدي إليه ، أما الأباريق ، فالتمكن إنما يحصل بجعله على اليسار ليسكب الماء بيساره في يمينه .

                                                                                                                الفضيلة السابعة : قال ابن أبي زيد في الرسالة : يستحب أن يقول بأثر الوضوء : اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين .

                                                                                                                وقال عليه الصلاة والسلام : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم رفع طرفه إلى السماء ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء ) .

                                                                                                                خاتمة : قال في الكتاب : لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء خلافا لأصحاب الشافعي محتجين بما في مسلم أن عائشة رضي الله عنها لما وصفت غسله عليه السلام قالت : ثم أتيته بالمنديل فرده ، وقال : ( إنه يذهب بنور الوجه ) .

                                                                                                                حجتنا : ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه ، وفي الترمذي أنه عليه السلام كانت له خرقة ينشف فيها بعد الوضوء وضعفه الترمذي ، وقال : لا يصح في هذا الباب شيء .

                                                                                                                ولأن المسح يؤدي إلى النظافة ، فإن الماء إذا بقي في شعره قطر من اللحية على الثوب ، فعلق به الغبار فينطمس لونه ، وكذلك يعلق ماء رجليه بذيول ثوبه ، وحديث مسلم لا ينافي ما قلنا لأنا نقول بإباحة تركه ، والحديث يدل على ذلك ، والقياس معنا ؛ لما ذكرناه ، ويؤكده أن غسالة الماء نجسة عند جماعة من العلماء فيجب إزالتها على هذا التقدير .

                                                                                                                فرع : وإذا أبيح التنشيف ، فهل يباح قبل الفراغ ؟ قال صاحب الطراز : على رأي ابن الجلاب لا يجوز لقوله : ولا يجوز تفريق الطهارة من غير عذر ، وعلى المشهور يجوز ليسارته ، وفي المجموعة : قلت لمالك أيفعل ذلك قبل غسل رجليه قال : نعم ، وإني لأفعله .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية