الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                قاعدة : الحقوق ثلاثة أقسام : حق لله صرف كالإيمان ، وللعبد صرف كالإيمان ، وحق مختلف فيه ، هل يغلب فيه حق الله أو حق العبد كالقذف ، فيفرق في الثالث ، إن اتصل بالإمام ، تعين حق الله ; لاتصاله بنائبه في أرضه ، وحق الله [ ص: 111 ] تعالى : أمره ونهيه ، وحقوق العبد مصالحه ، وما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك لمستحقه ، لكن المعنى في أنه غلب فيه حق العبد : أن العبد متى أسقط حقه سقط حق الله بإيصال ذلك الحق ، ويبقى من حق الله تعالى إثم المخالفة في الغصب ونحوه . فإن المغصوب منه إذا أسقط الطلب بالمغصوب ، لم يأمر الله بعد ذلك بإيصاله ، لكن يؤاخذ على جريمة الغصب في الدار الآخرة أو في الدنيا ، إلا أن يعفو ، أو يترجح كون القذف حقا للعبد بتوقفه على قيام طالبه ، وكونه يورث . وحقوق الله تعالى لا يدخلان فيه .

                                                                                                                فرع : .

                                                                                                                في الكتاب : لا يقوم بالحد إلا المقذوف ، فإن أكذب المقذوف البينة ، ردت الشهادة ، وإن قالت البينة بعد وجوب الحد : شهدنا بالزور ، سقط الحد ، وإن قذف ميتا ، فلابنه ، وولد ولده ، ولجده لأبيه القيام ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ; لأنه عيب يلزمهم . وليس للعصبة والإخوة مع هؤلاء قيام إلا عند عدمهم . وللجدات القيام بالحد ، إلا أن يكون له ولد ، فإن لم يكن للمقذوف وارث لم يقم به أجنبي ; لعدم تعلق الضرر به . وأما الغائب : فلا يقوم ولد لغيره بقذفه ; لأنه لم ينتقل الحق عنه ، وإن مات وأوصى بالقيام ، قام الوصي . في التنبيهات قوله : لا يقوم أحد للغائب ، ظاهره ، أنه لا يتعرض للقاذف ، وقال عبد الملك : يسجن حتى يقدم من له عفو أو قيام . قال ابن يونس في الموازية : ليس للإخوة والبنات والجدات قيام بقذف الميت إلا أن يوصي به ، وقال أشهب : لا يقوم إلا الأقرب [ ص: 112 ] فالأقرب ، وكذلك العفو ; لأنه ميراث الابن ، ثم ابن الابن ، ثم الأخ ، ثم الجد ، ثم الأم ، وكذلك القرابات من النساء ، الأقرب فالأقرب ، ولا حق للزوجة ولا بنت البنت . قال ابن القاسم : ويقام للغائب وإن طالت غيبته ، وقيل : لولده القيام في الغيبة البعيدة دون القريبة ، ويكتب للمقذوف ، وقال ابن القاسم : لا يقوم للغائب إلا الولد في أبيه وأمه ، قال : ولو سمعه السلطان مع شاهدين ، حده ، وإذا رفعه من سمعه للإمام سمع شهادته ، فإذا كمل النصاب حد القاذف . في النوادر : إذا قام المقذوف بعد طول الزمان ، حلف : ما سكت تركا ، وإنما يكون الحق للأولياء إذا مات المقذوف قبل طول الزمان ، أما بعد طوله فلا ; لأنه ليس موجودا حتى يحلف ، والطول ظاهر في الترك ، وقال أشهب : وإن طال قبل موته ; لأنه لو عفا ثم قام ، كان ذلك له .

                                                                                                                فرع : .

                                                                                                                في الكتاب : لا يحد القاذف حتى يبلغ بالاحتلام أو بسن لا يبلغه إلا محتلم دون الإنبات ، ومن فيه علقة رق ، فحده حد العبيد ، ويؤاخذ المحارب إذا تاب بما قذفه حال حرابته وبحقوق الناس ، فإن قذف حربي مسلما ، ثم أسلم أو أسر ، لم يحد ; لأن القصاص موضوع عنه ، وإن قدم بأمان فقذف مسلما ، حد ; لأن له عقدا كالذمي .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إذا ارتد المقذوف ، أو قذف وهو مرتد ، لم يحد ولو رجع إلى الإسلام ، كالزنا قبل الحد وبعد القذف ، فإن ارتد القاذف أو قذف وهو مرتد ، حد ، أقام على ردته أو أسلم ; لأن الردة لا تأبى أخذ الحقوق ، وتأبى أن تثبت لصاحبها [ ص: 113 ] حقوقا ; لكونها مستصدر الحياة . والحقوق إنما هي الحياة ، وكذلك لا شفعة له ، وإن قذف ملاعنة التعنت بولد أو بغير ولد ، حد ; لأن ولد الملاعنة يتوارثون فإنهم أشقاء ، ولو رجع الأب ثبت النسب ، وإن قال لولدها : لست لأبيك اختيارا ، لم يحد ، أو مشاتمة ، حد . ويحد قاذف المجنون ; لأن عرضه ممنوع ، كماله ونفسه .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إن خاصم في القذف ، ومات قبل إقامة البينة ، قام الوارث به .

                                                                                                                قاعدة : الوارث ينتقل إليه المال بالإرث ، فينتقل إليه كل ما يتعلق به من الخيار والشفعة والرد بالعيب ونحوه . ولا يرث النفس والعقل ، فلا تنقل إليه الإمامة والقضاء وما فوض إليه من خيار الغير ، ولا اللعان ، ولا نية الإيلاء ، ولا نحو ذلك ; لأنها أمور متعلقة بالنفس والعقل . ومقتضى هذه القاعدة : أن لا ينتقل القصاص والقذف ، لكن ضررهما متعد للوارث ، فانتقلا إليه لهذا السبب ، فهذا ضابط ما ينتقل للوارث وما لا ينتقل ، فليس كل حق مات عنه ينتقل .

                                                                                                                فرع : .

                                                                                                                في الكتاب : حد القذف والخمر على العبد ، أربعون ، ( نصف حد الحر ) ، وحده في الزنا ، خمسون ; لقوله تعالى ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) قال ابن يونس : قال محمد : إن أقيم عليه حد العبد ، ثم علم أنه حر ، حينئذ كمل حد الحر .

                                                                                                                [ ص: 114 ] فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إذا قال المشهود عليه : الشهود عبيد ، صدق الشهود في الحرية ; لأنها الأصل ، وكذلك القاذف للمقذوف ، عبد ، فإن ادعى بينة قريبة أمهل ، وإلا جلد . وإن أتى بها بعد ذلك ، زالت عنه جرحة الحد ، ولا أرش له في الضرب .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الجواهر : إذا ادعى عليه ، وأقام شاهدا أنه قذفه ، أحلفه ، فإن نكل حبس أبدا حتى يحلف . اتفق مالك وأصحابه أنه يحبس أبدا ، ( قاله محمد ) . وفي النوادر : في الموازية : إن طال سجنه ، خلي . قال أصبغ : ويؤدب إذا خلي إن كان يعرف بأذى الناس ، وإلا فأدبه حبسه . ولا يؤدب مستوجب الأدب ، إلا بعد الإياس من يمينه . وتوقف ابن القاسم في التأديب .

                                                                                                                فرع : .

                                                                                                                في النوادر : إن أقام القاذف شاهدين أن الوالي ضربه في الحد في الزنا ، لم يسقط الحد عنه ، وحد الشاهدان معه ، ولا تنفعه إلا أربعة على رؤية الزنا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إن قال للمنبوذ : يا ولد زنا ، أو يا ابن الزانية ، لا يحد ; لأنه ليس له نسب ينفى عنه ، ولا أمه معلومة ، فيحد لها ، بخلاف يا زان .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                [ ص: 115 ] قال في الموازية : إن قذف الغريب ، فعليه إقامة البينة على نسبه ، إلا أن يطول الزمان ، وينتشر عند الناس ، ويعرف به ، فيحد قاذفه . قالمالك : والناس على أنسابهم ; لأنهم حازوها ، وعرفوا بها كالأملاك ، ومن ادعى غير ذلك ، كلف البينة ، وإلا حد . وفي العتبية : إن قال : يا ابن الزانية للغريب الذي لا تعرف أمه ، وهو مسلم ، حد قاذفه . قال : وقد يقدم الرجل من خراسان ، ويقيم السنين ، فيحد قاذفه ، ولا يكلف بينة أن أمه حرة مسلمة .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال ابن القاسم : المعتق في الوصية المأمونة يقذف قبل تنفيذه من الثلث ، لا حد له ، ثم رجع إلى الحد إن أمن المال ، ويرث ويورث . والأمة الحامل من سيدها ، يموت سيدها قبل الوضع ، ولم تكن ولدت منه قبل ذلك ، لم يختلف قول مالك أنه يحد قاذفها ، ولم يراع أن الحمل ينقص .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إذا أخذ في الزنا أو الفرية أو الخمر ، فقال : أنا مملوك ، إن كان محصنا ، رجم في الزنا ، وجعل عليه حد المملوك في الفرية والخمر ; لأنه لا يتهم في رق نفسه ، وقال محمد : إن أقر بالرق لرجل حاضر أو قريب الغيبة ، سئل من أقر له ، فإن ادعاه ، لم يحد في الجلد ، إلا في حد العبد . وأما الزنا ، والقطع ، والقتل ، فلا يسقط إلا بالنية ; لأن الأصل الحرية .

                                                                                                                [ ص: 116 ] فرع .

                                                                                                                قال : قال ابن القاسم : إن قال لعبده أو أجنبي : قل لفلان : إن فلانا يقول لك : يا ابن الفاعلة ، ففعل ، حد الآمر دون المأمور . وإن قال له : اقذف فلانا - يعني العبد - يحد مع السيد ، ويحد الحر دون الآمر ; لأنه غير منحكم له . وفي الواضحة : يحد السيد والعبد ، أمره بالقذف أو بقوله له : يا ابن الفاعلة . وإن قال لأجنبي : قل له : يا ابن الفاعلة ، حدا معا . قال ابن حبيب ، وهو أحسن ما فيه ، وفيه خلاف . وفي الموازية : إن حمل لرجل كتابا فيه : يا ابن الفاعلة ، فدفعه إليه ، حد إن علم ما فيه ; لأنه تعريض .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : كان مالك إذا سئل عن حد ، أسرع الجواب ، وساس به ، وأظهر السرور بإقامة الحد . وقيل : لحد يقام بأرض ، خير لها من مطر أربعين صباحا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في المقدمات : في ثبوت القذف بشهادة النساء ، والشاهد مع اليمين ، خلاف جار على الخلاف في شهادتهن في جراح العمد ، وفي القصاص باليمين مع الشاهد ، والاتفاق في اللفظ دون المواطن ، جازت الشهادة اتفاقا ، واختلف اللفظ والمعنى ، واتفق ما يوجب الحكم ، كشهادة أحدهما بالقذف ، والآخر [ ص: 117 ] بنفي النسب ، ردت على الشهود ، أو اختلف الجميع ، لم يأتوا اتفاقا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : قال مالك وأكثر أصحابه و ( ح ) : إن شهادة القاذف جائزة حتى يحد ; لأن الله تعالى قال : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) ، فرتبت عدم القبول على عدم الإتيان بالشهادة ، وإذا لم يحد فهل تتأتى منه إقامة الشهادة ، وقال ( ش ) وعبد الملك : لا يقبل ; لأنه قبل الحد شر منه بعده ; لأن الحد كفارة له ، وإذا تاب قبلت عند مالك و ( ش ) ومنعها ( ح ) ، لقوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) ، والاستثناء في قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) ، يعود على التفسيق دون قبول الشهادة ، وهو باطل ; لأن سبب الرد التفسيق ، إذا زال قبلت .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية