الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فروع ستة :

                                                                                                                الأول : الاشتراك عندنا واقع في الأوقات خلافا ( ش . ح ) وابن حبيب من أصحابنا ، لنا وجوه أحدها : الأوقات الدالة على جمعه - عليه السلام - بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء دون غيرها ولولا الاشتراك لروعيت الضرورة في غيرها ، كما روعيت فيها وإلا يلزم نقض العلة لا لموجب ، وثانيها : أن أرباب الضرورات [ ص: 21 ] يدركون الصلاتين قبل الغروب وقبل الفجر ، مع انعقاد الإجماع على أنه لا يجب عليهم ما خرج وقته في غير محل النزاع فيكون وقتها باقيا ، ولا معنى للاشتراك إلا ذلك ، ثالثها : قوله عليه السلام أمني جبريل مرتين الحديث ، وذكر فيه أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله ، وصلى به الظهر في اليوم الثاني ذلك الوقت فيكون مشتركا ، احتجوا بحديث عبد الله بن عمر ، وفيه وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر وبحديث جبريل ، وأنهما يوجبان حصر الأوقات وأما أوقات الضرورات فخاصة بهم .

                                                                                                                والجواب عن الأول والثاني : قوله عليه السلام : من أدرك ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر . فلا بد من الجمع بين الأحاديث فيحمل الأول على أفضل الأوقات ، والثاني على ما فيه تفريط أو عذر ، وعن الثالث أن معنى اختصاص الوقت بأرباب الضرورات أنهم غير مقصرين فيه بخلاف غيرهم لما ذكرناه من الإجماع على عدم لزوم ما خرج وقته . التفريع : إذا قلنا بالاشتراك فالمشهور المنقول في الجواهر أنه خاص بأربع ركعات من أول القامة الثانية ، وقال التونسي : الاشتراك في آخر القامة الأولى بقدر أربع ركعات ، ومنشأ القولين قوله عليه السلام : فصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله ، إن حملنا الصلاة على أسبابها ، وهو مجاز كان الاشتراك واقعا في القامة الثانية أو على أحكامها ، وهو الحقيقة كان الاشتراك في آخر الأولى ، ولا يتجه في قوله عليه السلام : فصلى بي الظهر حين زالت الشمس إلا الابتداء والمجاز ، ويكون من إطلاق لفظ الكل على الجزء ، وكذلك المغرب والصبح ، فيتأكد المشهور بهذه الصلوات . قال صاحب التلخيص : فما بين القامتين ثلاثة أقوال : [ ص: 22 ] مشترك بين الصلاتين ، مقسوم بينها بقدر اشتراك ، مستقل بذاته . قال : ولو صلى الظهر عند الزوال والعصر بإثره لم تجب عليه الإعادة على القول بالاشتراك ، وحكاه صاحب اللباب وقال أشهب : الاشتراك عام في الثانية بدليل أرباب الضرورات ، وقال صاحب التلقين ، وابن القصار ، وغيرهما : تختص الظهر بمقدارها عند الزوال والعصر بمقدارها عند الغروب ; لوجوب إيقاع الظهر قبل العصر ، وفوات الظهر مع إيجاب العصر آخر النهار ، وقال المازري : وعند بعض الأصحاب عدم الاختصاص مطلقا وبقول تقدم الظهر ; لأجل الترتيب ، لا لعدم الاشتراك .

                                                                                                                الثاني : قال صاحب الطراز : تجب الصلاة عندنا ، وعند الشافعي وجوبا موسعا من أول الوقت ، وعند زفر يجب تأخير الوقت بقدر ما توقع فيه الصلاة ، وقال أبو بكر الرازي من الحنفية : يكتفى بتكبيرة الإحرام ، وقال الكرخي منهم تجب إما بالشروع أو بالتأخير إلى آخر الوقت ، واختلف القائلون بآخر الوقت هل هي نافلة أول الوقت أو موقوفة ؟ فإن خرج الوقت وهو مكلف أثبتنا أنها واجبة وإلا كانت نقلا . وروى المزني عن الشافعية أن الوجوب متعلق بأول الوقت ، وحكي عن بعضهم أن من مات وسط الوقت أثم وعندنا لا يأثم .

                                                                                                                قاعدة

                                                                                                                الواجب المخير والموسع والكفاية ، كلها مشتركة في أن الوجوب [ ص: 23 ] متعلق بأحد الأمور ، ففي المخير بأحد الخصال ، والموسع بأحد الأزمان الكامنة بين طرفي الوقت ، وفي الكفاية بأحد الطوائف ومتى تعلق الوجوب بقدر مشترك كفى فيه فرد من أفراده ، ولا يتعين الإخلال به إلا بترك جميع أفراده فلا جرم خرج المكلف عن العهدة بأي زمان كان منهلا إلا بترك جميعها ، فمن لاحظ هذه القاعدة - وهو الحق - قال : الوقت كله طرف الوجوب ; لتحقق المشترك في جملة أجزائه الذي هو متعلق الوجوب ، ومن لاحظ أن الوقت سبب والإجزاء حاصل بالفعل أول الوقت ، مع أن الأصل ترتب المسببات على أسبابها ، حكم بأن أوله وقت الوجوب ، ومن لاحظ أن حقيقة الواجب ما يلحق الإثم بتركه وهذا إنما يتحقق آخر الوقت قال : الوجوب مختص به ، ومن أشكلت عليه الحجاج ، قال بالوقف ، والحق الأبلج معنى ما تقدم في تقرير القاعدة .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال القاضي عبد الوهاب الذي تقتضيه أصول مذهب مالك رحمة الله عليه : أنه لا يجوز تأخير الواجب المخير إلا لبدل وهو العزم على أدائها في الوقت ; لأن من توجه عليه الأمر ، ولم يفعل ، ولم يعزم على الفعل فهو معرض عن الأمر بالضرورة والمعرض عن الأمر عاص ، والعاصي يستحق العقاب واختار الباجي وغيره عدم وجوب هذا العزم ; لأن الأمر دل على وجوب الفعل فقط والأصل عدم وجوب غيره ، ولأن البدل يقوم مقام المبدل فيلزم سقوط المأمور به وهو خلاف الإجماع . الثالث قال صاحب الطراز : لا تزال الصلاة أداء ما بقي الوقت الضروري ; لأن الأداء إيقاع العبادة في وقتها المحدود لها وهذا الوقت محدود لها فإذا تعمد التأخير إلى آخر [ ص: 24 ] الضروري لا يأثم عند ابن القصار ; حملا لقوله عليه السلام : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر على إدراك الأداء والمؤدي ليس بآثم ; لأنه فعل ما أمر به ، وقال الثوري : لو قيل بالإثم لم يبعد ، للتأخير عن الوقت المحدود في حديث جبريل ؛ قال : ولا خلاف أن من تعمد التأخير حتى بقي زمان ركعة فقط أنه عاص ، ورجح صاحب الطراز الأول محتجا بأن العبادة تسقط في هذه الحالة بالأعذار ، ولولا أن الوقت باق لم يسقط ، وأنكر الإجماع وظاهر كلام ابن القصار يأباه ، قال صاحب المقدمات : اتفق أصحاب مالك على امتناع تأخير الصلاة عن الوقت المختار إلى ما بعده من وقت الضرورة ، وأنه لا تجوز إلا لضرورة وهو القامة في الظهر والقامتان في العصر ، أو ما لم تصفر الشمس ، ومغيب الشفق في المغرب على القول بأن له وقتين ، وانقضاء نصف الليل في العشاء الأخيرة ، والإسفار في الصبح ; لقوله عليه السلام : تلك صلاة المنافقين الحديث . ولأنه لم يعهد في السلف فمن فعل ذلك فهو مضيع لصلاته ، وإن كان مؤديا ، وأما تركها حتى يخرج الوقت فمن الكبائر لقوله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية