الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثاني : في حكمه

                                                                                                                قال اللخمي : الأذان خمسة أقسام : سنة وهو الأذان في المساجد وعرفة ومنى والعدد الكثير في السفر ، والأئمة حيث كانوا ، ومختلف في [ ص: 58 ] وجوبه وهو أذان الجمعة ، قال والأحسن وجوبه ; لتعلق الأحكام كتحريم البيع ، ووجوب السعي ، ومستحب وهو أذان الفذ المسافر ، ومختلف فيه هل هو مستحب أم لا ؟ وهو أذان الفذ في غير السفر والجماعة التي لا تحتاج إلى إعلام غيرها والقولان لمالك قال : والصواب عدم الاستحباب ; لعدم حكمة الأذان ، ومكروه وهو الأذان للفوائت والسنن ، وأذان النساء . فرق : الفذ في السفر في موضع ليس فيه شعائر الإسلام ، فشرع له إظهارها وسرايا المسلمين تقصده فيحتاج إلى الذب عن نفسه بخلاف الحاضر ; فإنه مندرج في شعائر غيره وصيانته ، وفي الجواهر عن جماعة من متأخري الأندلسيين والقرويين أن الأذان واجب ; لإقامة شعائر الإسلام فإن فعله واحد منهم سقط عن جملتهم ، قالوا : وهو سنة مؤكدة في مساجد الجماعات ، ومواضع الأئمة وحيث يقصد الدعاء للصلاة ، وعن البغداديين أنه سنة ، واختار القاضي أبو الوليد وجوبه على الكفاية في المساجد والجماعة الراتبة ، وعلله بإظهار الشعائر وضبط الأوقات ، وقال المازري : في الأذان معنيان أحدهما إظهار الشعائر ، والتعريف بأن الدار دار إسلام ، وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية على تركه حتى يفعلوا إن عجز عن قهرهم على إقامة إلا بالقتال وهو مذهب ابن الطيب ، وثانيهما الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها ، وهو جل المقصود منه ، فحكى البغداديون أنه سنة عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وفرض عند أهل الظاهر ، ووقع لمالك في الموطأ أنه واجب ومعناه سنة مؤكدة وتأول بعض المتأخرين قول من قال : أنه سنة بأن معناه ليس شرطا في الصلاة ، ومنشأ الخلاف في قاعدتين : إحداهما أنه عليه السلام أمر بالأذان بلالا وأبا محذورة وغيرهما ، والخلاف بين الأصوليين في حمل الأمر على الوجوب أو على [ ص: 59 ] الندب ، وثانيتهما أن الصلوات واجبة وصحتها متوقفة على معرفة دخول وقتها ، والخلاف بين العلماء فيما يتوقف عليه الواجب المطلق وهو مقدور للمكلف هل يكون واجبا أم لا ؟

                                                                                                                سؤال إذا رتب الله تعالى وجوب شيء على سبب أو شرط لا يجب تحصيلهما ولا يبحث عنهما إجماعا كترتيب الرجم على الزنا والإحصان ، والقطع على السرقة ونحوهما ، فإنه لا يجب تحصيلهما ولا البحث عنهما ، وإنما يجب تحصيل ما يتوقف عليه الواجب بعد تحقق سبب وجوبه كتوقف الحج ، والجمعة على السعي لهما بعد تحقق وجوبهما وأسبابهما ، فلو خولفت هذه القاعدة هاهنا فإن الأوقات أسباب الوجوب كالزنا ، والسرقة والاستطاعة في الحج . جوابه : إن أسباب الوجوب على قسمين : منها ما يجوز أن يعرى عنه المكلف في جملة عمره فلا يجب عليه البحث عنه كالسرقة ونحوها ، ومنها ما يقطع بحصوله في الجملة من غير تعيين فيقطع بترتيب الوجوب في ذمته ; لقطعه بسببه وإذا قطع بالوجوب تعين الإيقاع ، فيتعين البحث عن تعيين السبب حتى لا يقع الفعل قبله فيكون معصية غير مجز ، قال صاحب القبس : روي أنه عليه السلام علمه الله تعالى الأذان ليلة الإسراء في السماء بهيئته وصفته ، وكان بمكة مع بقية من الكفار فكانت الصلاة اختلاسا إلى بعد الهجرة ، وفي الموطأ أنه عليه السلام أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ; ليجتمع الناس للصلاة ، فأري عبد الله بن زيد خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ [ ص: 60 ] فذكر له ذلك فأمر عليه السلام بالأذان ، وفي هذا الحديث عند أبي داود أنه عليه السلام اهتم كيف يجمع الناس للصلاة ؟ فقيل له : تنصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ، فذكر له القنع يعني الشبور فلم يعجبه ، وقال : هو من أمر اليهود ، وذكر له الناقوس فقال : هو من أمر النصارى ، وروي أن عمر قال : ابعثوا رجلا ينادي بالصلاة يعني بقول : الصلاة الصلاة . ويروى اتخذوا نارا مثل المجوس ، ويروى نوروا بالليل ، ودخنوا بالنهار . ويروى أن عمر - رضي الله عنه - رأى مثل ابن زيد وتابعه من الصحابة - رضوان الله عليهم - في الرؤيا بضعة عشر .

                                                                                                                فائدة : قال الخطابي : يروى القبع بالباء مفتوحة وبالنون ساكنة ، قال : وسمعت أبا عمر يقول : الثبع بالثاء المثلثة والجميع أسماء للبوق ، فبالنون من إقناع الصوت والرأس وهو رفعه ، وبالباء من الستر يقال : قبع رأسه في جيبه إذا أدخله فيه .

                                                                                                                تمهيد : هذا الحديث يدل على أنه عليه السلام كان يجتهد فيما به يعرف الوقت ، وليس هذا من باب الاجتهاد في الأحكام كما ظنه أبو الطاهر وغيره من الفقهاء ، وجعلوه من المسألة الأصولية هل له عليه السلام أن يجتهد في الأحكام أم لا ؟ لأن الحكم هو وجوب تعرف الوقت ، وهذا لم يقع فيه اجتهاد بل وقع في الطرق المفضية إلى ذلك والطرق ليست أحكاما كما لو وجب علينا أن ننقذ الغريق [ ص: 61 ] فاجتهدنا في فعل ذلك هل يكون بسفينة أو بحبل أو خطام أو بالسباحة إليه ؟ فإن هذه ليست أحكاما ، وإنما الحكم وجوب الإنقاذ ، ولذلك يجتهد الناس في تعرف الوقت بالخطوط الموضوعة على الحيطان ، والرخامات وسائر الآلات ، ولا يعدون مجتهدين في الأحكام الشرعية فلما وقعت الرؤيا احتمل أن تكون وحيا من النبوة كما أقام عليه السلام يوحى إليه في أول نبوته ستة أشهر في المنام ، وكما أوحي لإبراهيم - عليه السلام - في المنام بذبح ولده وعلم ذلك عليه السلام بوحي سابق أو بقرائن الأحوال تفيد القطع ، أو الظن الغالب بأنها وحي فعدل عن الاجتهاد إلى الوحي ، ويحتمل أن تكون الرؤيا منبهة على وجه المصلحة وليست وحيا ، فرجع إليها عليه السلام ; لرجحان ما دلت عليه من المصلحة ، لا لكونها وحيا والمصلحة في ذلك أرجح من كل ما تقدم قبلها ; لتحصيل ذكر الله تعالى ، والشهادة بالرسالة ، وإعلام الخلق ، ومباينة شعائر الكفر ، وإظهار اختصاص الأمة . وفي البخاري : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة . يروى بالكسر والفتح فالكسر معناه سرعة المشي ومنه أنه عليه السلام في حجة الوداع كان يسير العنق ، فإذا وجد فرجة نص ، والفتح قيل هو على ظاهره فتطول أعناقهم حتى لا يصل العرق إلى أفواههم التي كانوا يؤذنون بها ، وقيل أطول رجاء من قولهم تطاولت إليه الأعناق ، وطال عنقي إلى رجائك ، وقيل أطول أعناقا ، وعبر بالعنق عن الصوت ; لأنه محله ، وفي أبي داود : المؤذن [ ص: 62 ] يغفر له مدى صوته ، ويشهد له كل رطب ، ويابس . ومعناه يغفر له بسبب إسماعه ونشره لذكر الله في مد صوته ; لأن الحسنات يذهبن السيئات ، وشهادة الجمادات له يحتمل أن يخلق بها إدراكا وحياة عند الأذان فتضبط ذلك ، ويحتمل ذلك يوم القيامة ، وفي الموطأ أنه - عليه السلام - قال : إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع النداء ، فإذا قضي الأذان أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه ، فيقول : اذكر كذا ، واذكر كذا لما لم يكن يذكر ، وحتى يضل الرجل أن يدري كم صلى . والتثويب : الإقامة وهو من الرجوع كما تقدم وهو يصدق على تكرار اللفظ في الأذان ; لأنه رجوع إليه وعلى الدعاء الذي بعد الأذان ; لأنه رجوع للفظ الأذان وعلى الإقامة ; لأنها رجوع إلى الأذان ، وقد روي إذا أقيمت الصلاة ، ويروى يظل الرجل بالظاء القائمة بمعنى يصير ، ومنه قوله تعالى : ( ظل وجهه مسودا ) ( فيظللن رواكد على ظهره ) ويروى يضل من الضلال بالضاد الساقطة .

                                                                                                                فائدة : لا يتوهم من هذا أن الأذان والإقامة أفضل من الصلاة ; لهروب الشيطان فيها دون الصلاة ; لأن المفضول قد يختص بما ليس للفاضل ، كما قال عليه [ ص: 63 ] السلام : أفضلكم علي ، وأقرأكم أبي ، وأفرضكم زيد ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل مع فضل أبي بكر على الجميع - رضي الله عنهم أجمعين - وكذلك تعرض الشيطان له عليه السلام في صلاته ، فهم بربطه ، ثم تركه كما جاء الحديث الصحيح : وإذا سلك عمر - رضي الله عنه - فجا سلك الشيطان فجا غيره . فهروبه من عمر وإلمامه به - عليه السلام - كهروبه من الأذان وتسلطه في الصلاة . وفي الموطأ ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء ، وقل داع ترد عليه دعوته : حضرة النداء بالصلاة ، والصف في سبيل الله . ويروى في تهذيب الطالب : ونزول الغيث ، وقراءة القرآن .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                اختلف العلماء أيهما أفضل الأذان ، أم الإمامة ؟ فقيل : الأذان ، واختاره صاحب تهذيب الطالب ; لاشتماله على حق الله تعالى في التكبيرات ، والشهادة بالتوحيد وحقه عليه السلام في الشهادة له بالرسالة ، وحق العباد في الإعلام بالوقت في حق النساء ، والمنفردين والدعاء للجماعة في حق المقتدين بخلاف الإمامة ; فإن الإمام لم يتحدد له إلا الجهر بالذكر للإعلام بالأذكار ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه : لولا الخليفة لكنت مؤذنا أي : الخلافة .

                                                                                                                سؤال : لم كان عليه السلام مؤذنا ؟ لأن أفضل الخلق شأنه المواظبة على [ ص: 64 ] أفضل الأعمال بل كان إماما ولم يؤذن إلا مرة واحدة في سفره .

                                                                                                                جوابه من وجوه ، أحدها : أن الأذان مشتمل على دعاء الناس إلى الصلاة فلو أذن لكان التخلف على إجابته شديد الحرج ، فكان يشق على الناس ، وثانيها : أنه إن قال : أشهد أني محمد رسول الله غير نظم الأذان ، وإن قال أشهد أن محمدا رسول الله أوهم رسالة غيره ، وثالثها : أن الأذان يحتاج إلى رصد ومراقبة ، والاشتغال بأعباء الرسالة ، ومصالح الأمة يمنع من ذلك بخلاف الإمامة ، وقيل الإمامة أفضل ; لإفادتها فضل الجماعة وهي خمس وعشرون درجة ، ولم يثبت ذلك للأذان .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية