الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النوع الثاني عشر : السلام

                                                                                                                قال عليه السلام في " الصحيح " : " لن تدخلوا الجنة حتى تتحابوا ، وهل أدلكم على ما به تتحابون ، أفشوا السلام بينكم " ، وفي " الموطأ " قال عليه السلام : " يسلم الراكب على الماشي ، وإذا سلم من القوم رجل واحد أجزأ عنهم ، وقال عليه السلام : إن اليهود إذ سلم عليكم أحدهم إنما يقول : السلام عليكم ، فقل : " عليك " [ ص: 290 ] كلها في " الموطأ " ، قال صاحب " المنتقى " : قوله عليه السلام يسلم الراكب على الماشي معناه : يبدؤه بالسلام ويرد الآخر عليه ، وابتداء السلام سنة ، ورده واجب ، قال البراء بن عازب : أمرنا عليه السلام بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، ونصر الضعيف ، وعون المظلوم ، وإفشاء السلام ، وإبرار القسم . ووجوب الرد من قوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) ، ولأنه تعين حقه بالبداءة ، وصفة السلام أن يقول المبتدئ : السلام عليكم ، ويقول الراد : وعليكم السلام ، أو السلام عليكم كما قيل له ، ووقع للشافعية أنه لا يجزئ إلا بالواو على أحد القولين ; لأنه ليس مجاوبا ، بل الآخر مبتدئ ، وكره مالك أن يقول : سلم الله عليك ، وكان الراكب يبدأ ; لأنه أفضل من الماشي في الدنيا ، والأفضل أولى بالتكليف ، ولأنه أقدر ، فالخوف منه أشد ، فناسب أن يؤمن بالسلام ، ولأنه ينفي الكبر عن الراكب ، ويسلم المار على الجالس ; لأنه لقيامه أقوى على البطش ، أو لأن الجالس لو كلف ذلك مع كثرة المارين لشق عليه ، فإذا لم يلزمه إلا الرد لم يشق عليه ، فإذا استويا في المرور والالتقاء ابتدأ من حقه أقل على الأفضل منه ; لأن الأدنى مأمور ببر الأعلى ، وفي الحديث : " يسلم الماشي على القاعد ، والقليل على الكثير ، والصغير على الكبير ; لأن الكثير طاعة الله منهم أكثر باعتبار مجموع عباداتهم فيتعين برهم على القليل ، وبر الكبير على الصغير .

                                                                                                                ولا خلاف أن ابتداء السلام سنة ، أو فرض كفاية يسقط بواحد ، وأن رد السلام فرض على الكفاية ، وعن أبي يوسف يلزم الجميع الرد .

                                                                                                                لنا : الحديث المتقدم ، والقياس على الابتداء ، وينتهي السلام للبركة ، ولا يزاد على الثلاث كلمات .

                                                                                                                قال الشيخ أبو محمد : المصافحة حسنة ، وعن مالك : الناس يفعلونها ، وأما أنا فلا [ ص: 291 ] أفعلها ; لأن السلام ينتهي للبركة فلا يزاد عليه قول ، ولا فعل ممنوع كالمعانقة ، وأجازها أنس بن مالك ، وكانت في الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يكره مالك السلام على المتجالة بخلاف الشابة ; لأن الهرمة لا فتنة في كلامها ، والسلام شعار الإسلام عند لقاء كل مسلم عرفته أم لا ، إلا أن يمنع منه مانع ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : " تطعم الطعام ، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .

                                                                                                                وابتداء الذمي بالسلام غير مشروع ، ويرد عليهم بقوله : وعليكم ، فإن قالوا شرا عاد عليهم ، ففي الحديث : إذا سلم عليكم أهل الذمة ، فقولوا : وعليكم . وفي الحديث : " لا تبتدئوا اليهود ، والنصارى بالسلام ، فعلى هذا تكون الآية خاصة بالمسلمين في الرد .

                                                                                                                [ قال مالك : وإن سلم على الذمي فلا يستقيله لعدم الفائدة ] ، وعن عبد الله بن عمر أنه استقاله لئلا يعتقد أن المسلم يعتقد ذلك ، ولا يسلم على المبتدعة ، ولا أهل الأهواء تأديبا لهم ، وفي " الموطأ " كان عبد الله بن عمر يمر بالسوق ، ولا يمر على سقاط ، ولا صاحب بيعة ، ولا مسكين ، ولا عبد إلا سلم عليه ، وسلم عليه رجل فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات ، فقال له عبد الله : وعليك ألفا ، كأنه كره ذلك ، قال الباجي : قال ابن دينار : معناه الطير التي تغدو وتروح ، قال الباجي : ويحتمل الملائكة الحفظة الغادية الرائحة .

                                                                                                                قلت : الذي يناسب الكلام أن الغاديات والرائحات الخيرات والبركات والنعم التي تغدو أول النهار عليه وتروح بعد الزوال ; لأن الحركات قبل الزوال تسمى غدوا وبعده رواحا ، وقول عبد الله : وعليك ألفا ، قال ابن دينار : معناه ألف كسلامك على معنى الكراهية لتعمقه في الزيادة على البركة ، ثم كره كونه أيضا تجاوزوا .

                                                                                                                في " الموطأ " : مالك بلغه أنه إذا دخل البيت غير المسكون يقول : السلام علينا وعلى [ ص: 292 ] عباد الله الصالحين ، قال الباجي : إذا لم يكن فيه من يسلم عليه فليسلم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين كما يفعله في التشهد ، قوله تعالى : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) قال ابن عباس معناه : إذا دخلتم بيوتا ، فقولوا : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخل الإنسان منزله ينبغي أن يسلم على أهله .

                                                                                                                قال صاحب " القبس " : يقال : السلام معرفا : السلام عليكم بالألف واللام ، ومنكرا : سلاما عليكم ، فإن نكر فهو مصدر تقديره : ألقيت عليك مني سلاما ، فألق علي سلاما منك ، وإن عرف احتمل أن يكون مصدرا معرفا ، واحتمل أن يكون اسم الله تعالى ، معناه : الله رقيب عليك ، والسنة تقديم السلام على " عليك " ، ويكره عليكم السلام ، ففي أبي داود قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : عليك السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قل : سلام عليكم ، فإن عليك السلام تحية الميت ، يشير عليه السلام إلى ما وردت به اللغة في قولهم :

                                                                                                                عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما

                                                                                                                وكقول الآخر :

                                                                                                                عليك سلام الله مني وباركت     يد الله في ذاك الأديم الممزق

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في " المقدمات " : يكره تقبيل اليد في السلام ، وسئل مالك عن الرجل يقدم من السفر فيقبل غلامه يده ، فقال : تركه أحسن ، قال أبو الوليد : ينبغي أن ينهى مولاه عن ذلك ; لأنه بالاعتقاد صار أخاه في الله ، فلعله أفضل منه عند الله ، إلا أن يكون غير مسلم ، فلا ينهاه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله اليهود مختبرين له عن تسع آيات بينات ، فلما أخبرهم بها قبلوا يديه ورجليه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية