الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                ( الفصل الثاني في آدابه ) :

                                                                                                                اعلم أن أعظمها : الإخلاص لله سبحانه وتعالى ، فإنه إذا فقد انتقل العلم من أفضل الطاعات إلى أقبح المخالفات قال الله تعالى : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) .

                                                                                                                وروى ابن زيد في جامع المختصر أنه عليه السلام قال : ويل لمن علم ولم ينفعه علمه سبع مرات . ثم قال : ويل لمن لم يعلم ولو شاء الله لعلمه ثلاث مرات .

                                                                                                                ويروى عنه عليه السلام : يأمر الله تعالى بطائفة من العلماء والقراء والمجاهدين إلى النار ، ويقول لكل طائفة منهم إنما عملت ليقال ، وقد قيل . الحديث بطوله .

                                                                                                                [ ص: 48 ] وروى ابن أبي زيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم العلم ليماري به ، أو ليباهي به ، أو ليرائي به أوقفه الله موقف الذل والصغار ، وجعله عليه حجة يوم القيامة يوم يكون العلم زينا لأهله .

                                                                                                                وروي أيضا عنه عليه السلام : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة .

                                                                                                                وحقيقة الرياء أن يعمل الطاعة لله وللناس ، ويسمى رياء الشرك ، أو للناس خاصة ، ويسمى رياء الإخلاص ، وكلاهما يصير الطاعة معصية .

                                                                                                                وأغراض الرياء الباعثة عليه منحصرة في ثلاثة : جلب الخيور ، ودفع الشرور ، والتعظيم .

                                                                                                                ويلحق بالرياء التسميع ، وهو أن يقول علمت كذا ، أو حفظت كذا ، أو غير ذلك من أعمال البر ، والتسميع يكون بعد انعقاد العبادة معصية على الرياء ، وبعد انعقادها طاعة مع الإخلاص لكن في الأول يكون جامعا بين معصيتي الرياء والتسميع ، وفي الثاني هو عاص بالتسميع فقط ، فتقابل سيئة التسميع حسنة الطاعة المسمع بها في الموازنة ، فربما استويا ، وربما رجحت إحداهما على حسب مقادير الطاعات والتسميع .

                                                                                                                والأصل في التسميع قوله عليه السلام : من سمع سمع الله به أسامع خلقه يوم القيامة . أي ينادي مناد من قبل الله تعالى : عبدي فلان عمل عملا لي ثم تقرب به لغيري . نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                [ ص: 49 ] واعلم يا أخي أن هذا مقام تشيب منه النواصي ، ولا يعتصم منه بالصياصي ، فينبغي لك أن توفر العناية عليه ، والجد فيه مستعينا بالله تعالى ، فمن لم يساعده القدر ، ولم ينفعه الحذر ، ولقد قطع الكبر من استكبر .

                                                                                                                إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده ولكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد ، وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير ، فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها ، وطريق السلامة لسالكها ، والله تعالى هو المسئول المبتهل لجلاله في السلامة من عذابه .


                                                                                                                فما لجلدي بحر النار من جلد ولا لقلبي بهول الحشر من قبل



                                                                                                                واعلم أنه ليس من الرياء قصد اشتهار النفس بالعلم لطلب الاقتداء بل هو من أعظم القربات ، فإنه سعي في تكثير الطاعات ، وتقليل المخالفات ، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام : واجعل لي لسان صدق في الآخرين . قال العلماء معناه يقتدي بي من بعدي ، ولهذا المعنى أشار عليه السلام بقوله : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به . الحديث .

                                                                                                                حضا على نشر العلم ليبقى بعد الإنسان لتكثير النفع ، ومنه قوله تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) . على أحد الأقوال .

                                                                                                                وقال العلماء بالله : ينبغي للعابد السعي في الخمول والعزلة ، لأنهما أقرب إلى السلامة ، وللعالم السعي في الشهرة والظهور تحصيلا للإفادة ، ولكنه مقام كثير [ ص: 50 ] الخطر ، فربما غلبت النفس ، وانتقل الإنسان من هذا المعنى إلى طلب الرئاسة ، وتحصيل أغراض الرياء ، والله المستعان ، وهو حسبنا في الأمر كله .

                                                                                                                الثاني : ينبغي لطالب العلم أن يحسن ظاهره ، وباطنه ، وسره ، وعلانيته ، وأفعاله ، وأقواله ، فلقد أحسن من قال :

                                                                                                                فالعيب في الجاهل المغمور مغمور وعيب ذي الشرف المذكور مذكور قلامة الظفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور

                                                                                                                ولهذا المعنى قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات . أي لو فعلت ذلك لعذبناك مثل عذاب غيرك في الدنيا مرتين ، ومثل عذابه في الآخرة مرتين ، وكذلك في قوله تعالى : ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) . وهذه عادة الله تعالى في خلقه من عظمت عليه نعمته اشتدت عليه نقمته ، ولذلك رجم المحصن في الزنا ، وجلد البكر ، ولأن اشتهاره بالخير يبعث على الاقتداء به ، فيحصل له كمال السعادة الدنياوية ، ووقور السمت ، ويصير للمتقين إماما ، واشتهاره بالدناءة ينفر النفوس منه ، فتفوته هذه المنزلة بل ينبغي له أن يكتم من الحق ما تنفر منه عقول جلسائه ، وأهل زمانه ، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم ، فإنه إن يفعل ذلك لم يحصل مقصوده من إظهار ذلك الحق ، ولا من غيره ، ففي الحديث : من خاطب قوما بما لم تصل إليه عقولهم كان عليهم فتنة . اللهم إلا أن يكون مما أوجب الله تعالى إظهاره كقواعد الدين ، وإبطال شبه الضالين ، والأمر بالمعروف [ ص: 51 ] والنهي عن المنكر ، فيعتمد على قوله تعالى : ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر ) . ومن رضي الله تعالى عنه ، فلا يضره غضب غيره .


                                                                                                                إذا رضيت عني كرام عشيرتي     فلا زال غضبانا علي شرارها



                                                                                                                قال مالك - رحمه الله - في المختصر : حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار ، وسكينة ، وخشية ، واتباع لأثر من مضى قبله .

                                                                                                                وقال الحسن - رحمه الله - : كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في وجهه ، وتخشعه ، ولسانه ، ويده ، وصلواته .

                                                                                                                وقال عليه السلام : ما ضم شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم .

                                                                                                                وقال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا للعلم السكينة ، والوقار ، وتواضعوا لمن تتعلمون منه ، ولمن تعلمونه ، وإياكم أن تكونوا من جبابرة العلماء ، فلا يقوم علمكم بجهلكم . وقال أبو حازم - رحمه الله - : كان العالم فيما مضى إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة ، أو من هو مثله ذاكره ، أو من هو دونه لم يزه عليه ، ثم كان هذا الزمان أن صار الرجل إذا لقي من فوقه انقطع عنه حتى لا يرى الناس أن به حاجة إليه ، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره ، ويزهو على من هو دونه .

                                                                                                                وقال ابن أبي ليلى : أدركت عشرين ومائة من الصحابة والأنصار ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا ود أن صاحبه كفاه الفتيا .

                                                                                                                وقال مالك : جنة العالم لا أدري ، فإذا أخطأ أصيبت مقاتله . وقال كان الصديق يسأل عن الشيء ، فيقول لا أدري ، وأحدكم اليوم يأنف أن يقول لا أدري .

                                                                                                                قال مطرف - رحمه الله - : ما رأيت أكثر قولا من مالك لا أدري ، وقال بعض الفضلاء : إذا قلت لا أدري علمت حتى تدري ، وإذا قلت أدري سئلت [ ص: 52 ] حتى لا تدري ، فصار لا أدري وسيلة إلى العلم ، وأدري وسيلة للجهل ، ولذلك قال أبو الدرداء : قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العلم .

                                                                                                                ولما تعلم الحسن - رضي الله عنه - العلم أقام أربعين سنة لم يتكلم به ، وأفتى مالك - رحمه الله - بعد أربعين سنة ، وحلق ابن سبع عشرة سنة ، وكان يقول لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلا للفتوى قال سحنون : يريد العلماء قال ابن هرمز : ويرى هو نفسه أهلا لذلك .

                                                                                                                الثالث : أن يوفي الأمانة في العلم ، فلا يعطيه لغير أهله ، ولا يمنعه أهله ، فإن العلم يزيد النفس الشريرة شرا ، والخيرة خيرا . قال المحاسبي - رحمه الله - العلم كالغيث ينزل من السماء ، كله حلو يزيد الحلو حلاوة ، والمر مرارة ، وقال الغزالي - رحمه الله - : تعليم العلم لأهل الشر كبيع السيف من قاطع الطريق .

                                                                                                                وبعث الشافعي لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يستعير منه كتبا ، فتوقف عليه ، فكتب إليه :


                                                                                                                قل للذي لم تر عين من رآه مثله     حتى كأن من رآه قد رأى من قبله
                                                                                                                العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله     لعله يبذله لأهله لعله

                                                                                                                فبعث إليه بوقر بعير ، فقوله ينهى أهله أن يمنعوه أهله يفيد الدفع للأهل ، والمنع من غير الأهل ، والأصل في هذه القاعدة قوله عليه السلام : لا تعطوا الحكمة لغير أهلها ، فتظلموها .

                                                                                                                سؤال : إذ كان الغالب على الناس اليوم في طلب العلم الرياء ، والمباهاة ، وسوء الحالة ، فالمعلم لهم معين لهم على هذه المعاصي ، والإعانة على المعصية معصية ، فيحرم التعليم حينئذ على الإطلاق نظرا إلى الغالب .

                                                                                                                جوابه : هذا سؤال مشكل ، وقد اضطربت فيه فتاوى العلماء ، فمنهم [ ص: 53 ] من يقول لو اعتبرنا هذا لانحسمت مادة التعليم ، والإقراء ، فينقطع الشرع ، ويفسد النظام ، فيؤدي ذلك إلى إطفاء نور الحق ، وإضلال الخلق حتى يطبق الأرض الكفر ، ومعلوم أن هذه المفاسد أعظم من الرياء الذي قد يقع ، وقد لا يقع ، فإنا وإن قطعنا بوقوعه في الجملة لكنا لا نعلم حال كل أحد على انفراده ، فإن الله تعالى متولي السرائر ، فما استوى الأمران ، ولا وقوعهما .

                                                                                                                ولأن العلم قربة محققة ، وهذه المعاصي أمور عارضة ، الأصل عدمها في كل شخص معين .

                                                                                                                ومنهم من يقول : بل يتعين ذلك ، ولا يجوز التعليم إلا لمن يغلب على الظن سلامته من هذه المعاصي طردا لقاعدة إلحاق الوسائل بالمقاصد .

                                                                                                                وأما قول الأولين : إن اعتبار ذلك يؤدي إلى انقطاع الشرع ، وتطبيق الكفر ، فأجاب الغزالي عنه ، فقال لا نسلم أنه يلزم من تحريم التعليم انقطاع الشرع لأن الطباع مجبولة على حب الرئاسة ، ولا سيما بألقاب العلوم ، ومناصب النبوة بل ناب الطبع مناب الشرع في النظر ، فإن الطباع مجبولة على رؤية المستغربات ، والفكرة فيها ، وكذلك لم يلزم من تحريم الرياء وغيره من المحرمات عدمها .

                                                                                                                الرابع : ينبغي لطالب العلم إذا تعلم مسألة أن ينوي تعليمها كل من هو من أهلها ، وكذلك إذا علمها أن ينوي التوسل إلى تعليم كل من يتعلم ممن علمه ، فيكون المنوي في الحالين عددا لا يعد ، ولا يحصى ، وله بكل واحد من ذلك العدد حسنة ، فإن وقع منويه كان له عشر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من هم بحسنة ، فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشر . وهذا متجر لا غاية لربحه أعاننا الله تعالى على الخير كله .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية