الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 193 ] الباب الرابع

                                                                                                                في السوابق

                                                                                                                وهي ثلاثة ، السابقة الأولى ، النيابة في الحج ، قال سند : اتفق أرباب المذاهب أن الصحيح لا تجوز استنابته في فرض الحج ، والمذهب : كراهتها في التطوع ، وإن وقعت صحت الإجازة ، وحرمها ( ش ) قياسا على الفرض ، وجوزها ( ح ) وابن حنبل مطلقا ، وأما الشيخ الضعيف : فقال الأئمة : إن كان ذا مال وجب عليه الاستئجار ، واستحبه ابن حبيب ، والمذهب : أن حج النائب لا يسقط فرض المنيب ، وقال ( ح ) : يقع الحج تطوعا عن النائب وللمستنيب أجر النفقة وتسهيل الطريق ، وهو قريب من قول مالك ، وقال ابن حبيب : يجزئ عن الكبير العاجز والمنيب الموصي ، وفي ( الجواهر ) : لا تجوز الاستنابة عند العجز ، وروي الجواز ، وخصصها ابن وهيب بالولد ، وابن حبيب بالكبير العاجز الذي لم يحج ، وحج الولد عن أبيه الميت وإن لم يوص ، ونفذ أشهب الوصية بالحج من رأس المال إن كان صرورة ، وقيل : لا ينفذ ، وقيل : يحج عنه وإن لم يوص إن كان صرورة ، وفي ( الصحاح ) : ( أن امرأة من خثعم أتت النبي عليه السلام فقالت : إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة . أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وفي بعض الروايات : كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه ) وجوابه : أن هذا لم يجب عليه الحج لما ذكرت من العجز فنقول بموجبه ; لأنه ينتفع بالدعاء وبالنفقة ، وتشبيهه بالدين من جهة حصول الثواب ، والقياس يعضدنا ; لأنه أفعال بدنية كالصلاة ، ولقوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) . ( آل عمران : 97 ) ولم يقل : إحجاج البيت ، وإذا لم يجب [ ص: 194 ] الإحجاج ، والأصل عدم دليل يدل على مشروعيته ، فيكون فعله عبثا فيكره ، ولقوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) . ( النجم : 39 ) والمعارضة بعمل المدينة ، وإنما صححنا الإجارة ; لأنه محل اجتهاد ، فلا يقطع بالبطلان .

                                                                                                                قاعدة : الأفعال قسمان ، منها ما يشتمل على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله كرد الودائع ، وقضاء الديون ونحوها فتصح فيها النيابة إجماعا ; لأن المقصود انتفاع أهلها بها ، وذلك حاصل بنفس الدفع ، ولذلك لم يشترط فيها النيات ، ومنها ما لا يتضمن مصلحة في نفسه ، بل بالنظر إلى فاعله كالصلاة ، فإن مصلحتها الخشوع والخضوع وإجلال الرب سبحانه وتعظيمه ، وذلك إنما يحصل فيها من جهة فاعليها ، فإذا فعلها غير الإنسان فاتت المصلحة التي طلبها الله تعالى منه ، فلا توصف بكونها حينئذ مشروعة في حقه ، فلا يجوز فيها النيابة إجماعا ، ومصالح الحج تأديب النفس بمفارقة الأوطان ، وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط وغيره ليذكر المعاد ، والاندراج في الأكفان ، وتعظيم شعائر الله تعالى في تلك البقاع ، وإظهار الانقياد من العبد لما لم يعلم حقيقته كرمي الجمار ، وهذه مصالح لا تحصل إلا للمباشر كالصلاة ، فيظهر رجحان المذهب بهذه القاعدة ، ومن حاول الفرق بين الحج والصلاة ، لاحظ ما فيه من القربة المالية غالبا في الإنفاق في السفر ، فأشبه العتق والصدقة عن الغير .

                                                                                                                فروع اثنا عشر : الأول ، قال سند : اتفق مالك والأئمة على الإرزاق في الحج ، وأما الإجازة بأجرة معلومة : فقال بها مالك و ( ش ) ، ومنعه ( ح ) وابن حنبل ، والأفعال ثلاثة أقسام : ما يجوز فيه الإرزاق والإجازة نحو بناء المساجد ، وتفريق الصدقات ، وما تمنع فيه الإجازة دون الإرزاق ، نحو الفتيا ، والقضاء ، وما اختلف في جواز الإجازة فيه دون الإرزاق نحو : الأذان والصلاة والحج ، فإن قاسوا على صور المنع ، فرقنا بأن العمل ثمة غير منضبط بخلافه ها هنا ، وقسنا على صورة الجواز ، ومنع ( ش ) الاستئجار بالنفقة للجهالة ، وقسناها على نفقة النظير ، وأجبناه بأنه منضبط عادة . والمعارضة تقع في الحج ثلاثة أقسام : [ ص: 195 ] بأجرة معلومة ، وبالنفقة ، وتسمى البلاغ ، وعلى وجه الجهالة وهو أن لا يلزم نفسه شيئا ، ولكن إن حج كان له كذا وكذا ، وإلا فلا .

                                                                                                                والثاني ، في ( الكتاب ) : من أخذ مالا يحج به عن ميت فصده عدو عن البيت ، فإن أخذه على البلاغ رد ما فضل عن نفقته ذاهبا وراجعا ، وإن كان أجيرا كان له من الأجرة بحساب مسيره إلى موضع صده ، وكذلك من مات في الطريق ، وقال ( ش ) : لا شيء له . وإن أحصر صاحب البلاغ فمرض ، فنفقته في مال الميت مدة مرضه ، وإن أقام إلى قابل أجزأ عن الميت حجة ( ش ) بأن الإجارة مقابلة المقصود ، لا الوسيلة ، فإذا لم يأت بالمقصود فلا شيء له ، كمن استؤجر على البناء أو الخياطة فهيأ الآلات ولم يخط ، وجوابه : أن أكثر المبذول ها هنا لقطع المسافة ، فهي أعظم المقصود في أخذ العوض ، ولذلك يكثر المبذول ويقل بكثرة المسافة وقلتها ، بخلاف آلات الخياطة ، وأما الخياطة والبناء إن وقعا على وجه الجعالة فمسلم أنه لا يستحق شيئا ، وكذلك في صورة النزاع ، وإلا فنحن نلزمه بالعمل ولا تسقط الأجرة ، فنحن نمنع الحكم في الأصل ، قال سند : إذا صد في الجعالة : فلا شيء له ، وفي البلاغ له ما جرت العادة به مما لا بد منه ، كالعسل والزيت واللحم المرة بعد المرة والوطاء واللحاف والثياب ، ويرد ما فضل من ذلك ، والفرق بين المستأجر لا ينفق راجعا وذي البلاغ : أن رجوعه لم يتناوله العقد ، وإذا أحصر بعد الإحرام ونحلل : فإن أوجبنا الهدي على قول أشهب فعلى المستأجر ، وكل ما فعل من أعمال الحج واقع عن المستأجر ، وقال بعض الشافعية : عن المحصور ، والدم عليه ، والمستأجر على البلاغ إذا تحلل بعد الحصر وبقي بمكة حتى حج من قابل ، أو بقي على إحرامه الذي دخل به إلى قابل فحج به ، فلا شيء على المستأجر إن كانت الإجارة على العام الأول كما لو أكرى داره سنة فغصبت ، ثم سلمها الغاصب في تلك السنة ، وإن كانت على مطل الحج من غير تعيين سقط من نفقته من يوم إمكان التحلل مدة مكة ، فإن سار بعد ذلك ليحج فله نفقة [ ص: 196 ] مسيره ، ولا نفقة له في مقامه بها حتى يأتي من قابل الوقت الذي أحصر فيه ، ويذهب من الوقت الذي أحصر فيه ، ويذهب من الوقت قدر السير إلى مكة ، فتكون له النفقة بعد ذلك ، وأما الأجير بأجرة معلومة : فله منها من الحصر إلى الفوت ، أحرم أو لم يحرم ، وأما المجاعل : فليس له بعد الإحرام الرجوع للعبادة لا للعقد ، وإن شرط عاما معينا ففات سقط العقد ، وإلا فهو على عقده ، وقال ابن حبيب في الأجير إذا مات بعد دخول مكة : له جملة الأجرة ، وهو ضعيف لبقاء بعض ما اقتضاه العقد ، ولو كان الحج مضمونا لا معينا ، مثل قوله : من يأخذ كذا في حجه ؟ ثم مات الآخذ . ولم يحرم ، قام وارثه مقامه كسائر الإجارات ، فإن مات بعد الإحرام فللوارث أن يحرم إن لم تفت السنة ، في السنة المعينة ، وإن فاتت في غير المعينة ، ويحرم من موضع شرط المستأجر أو من ميقاته ، ولا يحتسب بما فعل مورثه ، وقال ( ش ) في الجديد : مثلنا ، وفي القديم : يبنى كبناء الولي على أفعال الصبي ، والفرق : أن الولي لم يجدد إحراما ، وإنما ناب في بعض الأفعال . وأما أجير البلاغ يمرض فله مدة مرضه نفقة الصحيح .

                                                                                                                الثالث ، في ( الكتاب ) : من ضعف من كبر لا يحج أحدا عن نفسه صرورة كان أو غير صرورة ، ومن مات صرورة ولم يوص بالحج وأراد أحد أن يتطوع عنه بذلك فليتطوع بغير هذا من صدقة أو غيرها ، فإن أوصى بعمرة نفذت ، قال سند : الخلاف هنا إنما هو في الكراهة والجواز ، فكما يكره عن الميت فهو عن الحي أشد ، ويصح الحج عن الميت ، وتنفذ الوصية بإحجاج مسلم حر بالغ لتنزل حجه منزلة حج الموصي ، فإن أوصى بذلك لعبد أو صبي وهو صرورة قال ابن القاسم في ( الموازية ) : دفع ذلك لغيرهما ، وقال ابن الجلاب : إن أوصى - وهو صرورة - لا يحج عنه إلا بالغ حر إلا أن يوصي بذلك ، وإن لم يكن صرورة جاز إلا أن يمنع من ذلك ، وقال في كتاب الوصايا من ( المدونة ) : تنفذ [ ص: 197 ] وصية العبد والصبي لاحتمال أن يكون إنما أراد نفعهما ، وأما إن كان الأجير صرورة فأجاز إجارته مالك و ( ح ) ومنعها ( ش ) وابن حنبل ، فإن وقع فلا يقع عن النائب ، لما في أبي داود : أنه عليه السلام سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي ، فقال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ، وجوابه : أنه وقع عام الفتح حين فسخ النبي عليه السلام والناس حجهم إلى عمرة ، فلما جاز الفسخ من قربة إلى قربة ، جاز الفسخ من شخص إلى شخص ، ويدل عليه قوله عليه السلام : ( حج عن نفسك ) ، ولقوله عليه السلام : ( الأعمال بالنيات ) قال : والخلاف في العمرة كالخلاف في الحج ، فيما يجوز ويمتنع ; لأنهما عبادة بدنية .

                                                                                                                فائدة : الصرورة لغة : من لم يتزوج أو لم يحج ، كأنه من الصر ، ومنه : الصرة لانجماعه وعدم اتصاله بهذين المعنيين .

                                                                                                                الرابع : في ( الكتاب ) : إذا استؤجر على الحج فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت لم يجزه عن الميت ، وعليه حجة أخرى عنه ، كما استؤجر ، قال ابن القاسم : وكذلك لو قرن ونوى العمرة عن نفسه ، وعليه دم القران ، قال سند : إن شرط عليه موضع الإحرام صح وفاقا ، وإلا فالمذهب صحته من ميقات الميت ، وأنه إذا اعتمر وقلنا : تجزئه فلا يرجع عليه بشيء من الأجرة ، وقال ( ش ) : يرجع بقدر ما ترك من الميقات إلى مكة ، لنا أن عمله صحيح ، وإنما وقع فيه خلل جبره بالدم ، فأشبه ما لو رجع إلى الميقات بعد العمرة ، وقد سلمه الشافعي ، وقاله : أبو حنيفة ; لأن المقصود إنما هو الحج ، وإن قلنا : لا يجزئه ولو رجع إلى الميقات فأحرم عن الميت : قال ابن المواز : يجزئه إن كان ميقاة الميت ، ويحتمل أن يقال : إنه لما [ ص: 198 ] اعتمر لنفسه : كان سفره لنفسه فلا يجزئه إلا العود ، وكما أنه إذا فات الحج يرد جميع الأجرة ، وقد قال ابن القاسم بعد هذا : إذا شرطوا عليه أن لا يقدم عمرة فقدمها : يرد عليهم ما قبض منهم ، ولم يقل : يسقط ما بعد من الميقات ، وإذا كانت الإجارة على عام بعينه ، وقلنا : لا يجزئه رد الأجرة مع قولنا : إنه لو رجع إلى الميقات أجزأه ولو مات عنده ، كمن استؤجر على متاع فغصبه ببعض الطريق ضمنه ولا كراء له ; لأن الغيب كشف أنه إنما حمله لنفسه ولو رد المتاع وأتم الحمولة : كانت له جملة الأجرة ، ولو كانت الإجارة مضمونة كان عليه الوفاء بها ، فلو تمنع وجعل جميع ذلك عن الميت : قال مالك يجزئه ، فلو شرطوا عليه ألا يقدم عمرة : قال ابن القاسم و ( ح ) : عليه أن يوفيهم ، ثم رجع إلى قول مالك لأنه رآه خيرا ، وفي ( الجلاب ) عن ابن القاسم : عدم الإجزاء ، ولم يفصل بين وقوع العمرة عنه ولا عن الميت ، وحكي الإجزاء عن ابن الحكم ولم يفصل ، قال سند : وإذا قلنا بالإجزاء فعليه الهدي كدم الصيد والفدية ، ولو شرط عليه ميقاة فأحرم من غيره : فظاهر المذهب : لا يجزئه ويرد المال في الحج المعين إن فات ، وقال ( ش ) : لا يرد وإن أحرم من الأقرب ; لأن المقصود هو الحج . لنا : القياس على ما إذا استؤجر لسنة معينة فحج في غيرها ، ولأنه خلاف المعقود عليه ، ولو أطلق العقد ، ففي تعيين ميقاة الميت قولان ، وأما إذا قرن فلا يجزئ عند ابن القاسم و ( ش ) ; لأنه أحرم واحد ، لا يمكن أن يكون عن اثنين ، وتقع عن الأجير ، ويكون الحج ها هنا تبعا للعمرة لتعذر وقوعه عن المستأجر ، فإن كانت السنة معينة لا بد أن ينفق على سنة أخرى ; لأنه دين في دين ، أو غير معينة فالقياس أن عليه الوفاء بها ، وقيل : إن عرف ذلك من قوله ، وكذلك إن كتم ذلك ثم فطن له فسخت الإجارة ; لأنه لا يوثق به في السنة الثانية ، فلو أذنوا له في القران بعمرة لنفسه لم يلزمه شيء ، والظاهر أن العمل يبطل لوقوع التشريك في الطواف الواحد ، وقال أشهب : إذا حج عن رجل واعتمر عن آخر وقد أمره بذلك : أن دم القران على المعتمر وحج [ ص: 199 ] حجه ، وإذا جازت الإجارة عليهما مفردتين جازت مجتمعتين ، فلو اشترط القران فأفرد ، فالمذهب لا يجزئه لإتيانه بغير المعقود عليه وكان سفره له ، وقال ( ش ) : يجزئه ويرد من الإجارة بقسط العمرة ، فلو استؤجر ليقرن فتمتع ، لم يجزئه ولا يرد عند ( ش ) هاهنا شيئا ، ولو استؤجر ليتمتع فقرن لم يجزئه ، وقال ( ش ) : يجزئه ; لأن عليه الإحرام من مكة ، فأحرم من الميقات ، فلو استؤجر على أن يتمتع فأفرد لم يجزئه ، ولا يجزئه أن يعتمر بعد الحج ; لأن الشرط لا يتناوله ، ولا ينظر إلى فضل الإفراد عندنا ; لأنه لو استؤجر على العمرة فحج لم يجزئه ، وإنما النظر إلى مخالفة العقد .

                                                                                                                الخامس : في ( الكتاب ) : من حج عن ميت أجزأته النية دون : لبيك عن فلان . قال ابن القاسم : ولو ترك ما يوجب الدم مع بقاء الإجزاء أن لو كانت الحجة عن نفسه أجزأت عن الميت ، وكل ما لم يتعمد من ذلك أو فعل لضرورة ، أو أغمي عليه أيام منى حتى رمى عنه غيره ، أو أصابه أذى فالفدية والهدي في مال الميت إن كان على البلاغ ، وما كان من ذلك بتعمده ففي ماله ، وإن كانت إجارة ، فالعمد وغيره في ماله ، قال سند : الاقتصار على النية يدل على قبول قوله ، وفيه خلاف بين الأصحاب ، فعلى القول بالأشهر يعلن تلبيته عنه ، ومقصود ( الكتاب ) : إنما هو انعقاد الحج بمجرد النية ، فإذا قبض الأجرة فهو أمين حتى تثبت خيانته ، وإن لم يقبض فلا شيء عليه حتى تثبت التوفية ، ولا يصدق إن اتهم إلا بالبينة ، فلو شرط عليه دم التمتع ونحوه لم يجزئ ; لأنه بيع مجهول ضم إلى الإجارة .

                                                                                                                السادس ، قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : من أخذ مالا على البلاغ فسقط منه رجع من موضع السقوط : ونفقته في رجوعه على مستأجره ، فإن تمادى فهو مقطوع ولا شيء له في إذهابه إلا أن يسقط بعد إحرامه فليمض لضرورة الإحرام ، ونفقته ذاهبا وراجعا على الذي دفع إليه المال ، ولو أخذه على الإجارة فسقط ضمن الحج ، أحرم أو لم يحرم ، قال سند : القياس في البلاغ - إذا لم يكن [ ص: 200 ] شرطا - أن يتمادى ; لأن الأجرة لم تتعين ، والعقد لازم ، ورأى ابن القاسم أن المال لما تعين صار محل العقد ، كما لو استؤجر لغرض معين فتلف ، وقال ابن حبيب : لا نفقة له في رجوعه لانفساخ العقد بالسقوط ، وابن القاسم يرى أن المقطوع من المسافة استقر في العقد ذهابا ورجوعا ، فإن كان الميت أوصى بأن يحج عنه ولم يعين لذلك شيئا كان ذلك في تمام الثلث . إن رضي الورثة كلهم بهذه الإجارة ، وهو قول ابن القاسم ، فلو فرضوا ذلك لأحدهم ففعله بغير علمهم ، أو فعله وصي : قال ابن القاسم وغيره : الغرامة على الوصي دون مال الميت ; لأنه غرر بالعدول عن الإجارة المعلومة إلى البلاغ ، وقال ابن حبيب : في مال الميت ; لأنه فرض إليه النظر في المصلحة ، وقد رآها كذلك ، فإن لم يبق للميت ثلث فذلك على العاقد من وصي أو غيره ، وإذا سقطت النفقة ورجع : قال ابن القاسم : سقطت الوصية وإن كان في الثلث فضل ، وقال أشهب : عليهم أن يحجوا عنه من بقية الثلث ; لأنه لم يسم ، كالوصية بإعتاق رقبة تشترى فتهلك قبل العتق ، والفرق : أنه لا يجب عتق العبد بشرائه كما يجب حج الأجير بالعقد ، فلو لم يسقط لكن نفدت في الكلف لا يرجع ، ونفقته عليهم ، والفرق : أن المال محل العقد ، فإذا سقط فكأنه لم يسلم العقود عليه ; لأنه كان معه أمانة ، وهذا قد سلمه ، والقول قوله في السقوط مع يمينه ، سواء ظهر ذلك عند الضياع أو بعد الرجوع .

                                                                                                                السابع : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : إذا أوصى بأن يحج بأربعين ، فدفعوها لرجل على البلاغ ، فأفضل منها عشرين ردها عليهم ، كما لو قال : اشتروا عبد فلان بمائة فأعتقوه ، فاشتروه بأقل فالبقية ميراث . وإن قال : أعطوا فلانا أربعين ليحج بها عني فاستأجروه بثلاثين فالعشر ميراث ، قال سند : وإن كان الموصى له وارثا لا يزاد على النفقة والكراء شيئا ، قاله في كتاب الوصية ، وإن كان غير وارث فعلم ورضي بدونه فقد أسقط حقه ، وإن لم [ ص: 201 ] يعلم : فرأى ابن القاسم أن المقصود الحج ، وقال ابن المواز : يدفع الجميع له في الحج ; لأنه وصية للغير ، وإذا قلنا : يعطى الزائد فقال : أحجوا غيري ، وقال : أعطوني الزائد : لم يوافق ; لأنه أوصى له بشرط الحج ، فإن الميت قصد التوسعة في الحج ، وإن لم يكن صرورة : قال ابن القاسم في الوصايا : يرجع ميراثا إن امتنع الموصى له ، وقال غيره : لا يرجع تحصيلا للمقصود من الحج ، فإن قال : أحجوا عني بهذا المال ، فعل فيه ما يفعل في الوصية المطلقة ، فإن الإطلاق تارة يكون في الأجرة ، وتارة في الأجير ، وتارة فيهما ، وتارة يكونان معينين ، فهي أربعة أقسام ، فإذا أطلقت الأجرة وقال : أحجوا عني : أخرجت من ثلثه أجرة حجه موضعه . قاله أشهب ، كالحالف يحنث إن لم تكن له نية ، يمشي من موضع الحلف ، وإن لم يحمل الثلث فمن موضع يحمله ، قال مالك : إن كان يسيرا مثل الدينار رد إلى الورثة ، وإن سمي موضعا أحجوا منه إن حمل الثلث وإلا قال ابن القاسم : يرجع ميراثا ، وفرق بين تعيين الموضع وإطلاقه لارتباط الوصية بالموضع ، كما لو استؤجر ليحرم من موضع يعينه فأحرم من غيره فلا شيء له ، وقال أشهب بتنفيذها إلى ثلثه إن وجد من يحج بها عنه ، وقال ابن المواز : إن كان صرورة فقول أشهب أحسن ، وإلا فقول ابن القاسم ، ولو قال : أحجوا عني بثلثي ، حجة واحدة فأحجوا بدونه ، فالباقي لهم عند ابن القاسم ، وعند أشهب : يخرجونه في حجة أخرى ، وفعلهم للأقل جائز ، ولا يجزئهم عند سحنون . ويضمنون المال للمخالفة .

                                                                                                                الثامن : قال سند : يجب اتصال العمل بالعقد في الإجارة المعينة كسائر الإجارات ، وإن كانت بالحجاز فالأحسن أن تكون في الأشهر الحرم ليشرع فيها عقيب العقد ، ويجوز التأخير في المضمونة والسنين .

                                                                                                                التاسع : قال : من عليه مشي إلى مكة فأوصى به ، قال مالك : لا يمشي [ ص: 202 ] عنه ويهدي هديين للحج وصفته بالمشي ، فإن لم يجد فهدي واحد ، ولا يمشي أحد عن أحد ، فإن وعده ابنه بذلك بطل وعده ، فمن الأصحاب من حمل هذا من مالك على المنع من الاستنابة في الحج ، والأحسن : أن يحمل على أنه لا يجب الوفاء بذلك ; لأنه لو كان ممنوعا لما خص الولد عليه على أحد قوليه . وفي الأول ، ألحقه بالصوم والصلاة ، مع أن بعض الناس قد جوزه في الصوم والصلاة لما في البخاري عن ابن عمر ( أن امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء قال : فصلي عنها ) وفي مسلم : ( أن امرأة سألته عليه السلام عن أمها أنها ماتت وعليها صوم شهر ، أفأصوم عنها ؟ قال : صومي . والحج أبين ، وإن عين الميت لذلك مالا ، لا يختلف قول مالك في تنفيذه ، فإن لم يوص بالمشي وقال : ما لزمني فافعلوه ، فعلى قول مالك : يلزمهم الهدي لتعذر أداء الواجب بالموت ، وعند سحنون : لا يفعلون شيئا ; لأنه لا يلزمه أن يحج من ماله ، ولا أن يهدي ، لتعلق الوجوب بالبدن ، وإن قال : علي حجتان : فرض ونذر ، فاستأجروا اثنين لعام واحد ، صح بخلاف من حج لفرضه ونذره في عام واحد لتعذر الإحرام ، وقال بعض الشافعية : لا يجوز ; لأنه لا يؤدي النذر إلا بعد الفرض . العاشر : قال : لو أحرم عن أبيه وأمه لم ينعقد ، وقاله ( ش ) وقال ( ح ) : ينعقد ، ويجعله بعد ذلك عن أيهما شاء ، وسلم عدم الانعقاد في الأجنبيين ، ويقع عن نفسه ; لأن المقصود ثم إنما هو البر ، وهو جهة واحدة بخلاف الأجنبيين فلما [ ص: 203 ] أمكن أن يقال في الأجنبيين : المقصود جهة واحدة ، وهي الخروج عن حقهما ، فلو أحرم عن أحدهما من غير تعيين لم تقع إلا عن نفسه ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يصرفه إلى من شاء منهما . لنا : أنه إحرام من غير تعيين ، فلا يصح تعيينه بعد ذلك ، كما لو أحرم عمن لعله يؤاجره ويخالف إحرامه عن نفسه ، ثم يعين بعد ذلك بحج أو عمرة ; لأنه يعين نفسه ، وأحد النسكين شأنه أن يدخل في الآخر .

                                                                                                                الحادي عشر : قال : إذا أوصى أن يحج عنه بمال ، فتبرع عنه بغير مال ، فعلى أصل ابن القاسم : يعود ميراثا ، وعلى قول أشهب : يستأجر به . كما لو استأجر عنه بدون المال .

                                                                                                                الثاني عشر : إذا أحرم الأجير عن الميت ثم صرفه إلى نفسه لم يجزئ عنهما ، ولا يستحق الأجرة ، وقال الشافعي : يقع عن الميت ، واختلفوا في استحقاق الأجرة ، وفي ( الجواهر ) : في افتقار العقد إلى تعيين الزمان الذي يحج فيه ، قولان للمتأخرين ، واختلفوا في تعلق الفعل بنفس الأجير أو بذمته ، وعليه يخرج الخلاف إذا امتنع المعين ، وإذا صد الأجير فأراد الإقامة على إحرامه إلى عام ثان ، أو تحلل وأراد البقاء على إجارته ليحج في العام الثاني : فللمتأخرين في المسألتين قولان ، وفي ( الجلاب ) : لا يجوز للأجير استئجار غيره إلا بإذن المؤجر .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية