الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        19484 - وفي هذا الباب :

                                                                                                                        وسئل مالك عن الإشارة بالأمان ، أهي بمنزلة الكلام ؟ فقال : نعم . وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش : ألا تقتلوا أحدا أشاروا إليه بالأمان . لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام . وإنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال : ما ختر قوم بالعهد ، إلا سلط الله عليهم العدو .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        19485 - وقال أبو عمر : إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان ، فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله ! كيف ترى في الغدر به والقتل ؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن " .

                                                                                                                        [ ص: 85 ] 19486 - وذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : " أتانا كتاب عمر نحن بخانقين : إذا قال الرجل إلى الرجل : لا تخف ، فقد أمنه ، وإذا قال : مترس ، فقد أمنه ، فإن الله يعلم الألسنة .

                                                                                                                        19487 - قال : وحدثنا مروان بن معاوية ، عن حميد ، عن أنس ، قال : حاصرنا تستر ، فنزل الهرمزان على حكم عمر منزله به أبو موسى معي ، فلما قدمنا على عمر سكت الهرمزان ، فلم يتكلم ، فقال عمر : تكلم ، فقال : كلام حي أم كلام ميت ؟ قال عمر تكلم فلا بأس ، فقال : إنا وإياكم معشر العرب ما خلى الله بيننا وبينكم . كنا نقتلكم ، ونعصيكم ، فأما إذ كان الله معكم لن يكون لنا بكم يدان ، فقال : نقتله يا أنس قلت : يا أمير المؤمنين ! قلت : خلفي شوكة شديدة ، وعدوا كثيرا إن قتلته يئس القوم من الحياة ، وكان أشد لشوكتهم ، وإن استحييته طمع القوم ، فقال : يا أنس استحيي قاتل البراء بن مالك ، ومجزأة بن ثور ؟ فلما خشيت أن يتسلط عليه قلت له : ليس لك إلى قتله سبيل ، فقال : أعطاك أصبته منه ؟ قلت : ما فعلت ولكنك قلت له : تكلم ، فلا بأس ، قال : أتجيئني بمن يشهد معك ، وإلا بدأت بعقوبتك ، قال : فخرجت من عنده ، فإذا أنا بالزبير بن العوام قد حفظ ما حفظت ، فشهد عنده ، فتركه ، وأسلم الهرمزان ، وفرض له .

                                                                                                                        [ ص: 86 ] قال : وحدثنا ريحان بن سعيد ، قال : حدثني مرزوق بن عمر ، قال : حدثني أبو يزيد ، قال : خرجنا مع أبي موسى الأشعري يوم فتحنا سوق الأهواز ، فسعى رجل من المشركين ، وسعى رجلان من المسلمين خلفه ، فبينما يسعى ويسعيان إذ قال أحدهما له : ( مطرس ) ، فقام الرجل ، فأخذاه ، فجاءا به ، وأبو موسى يضرب أعناق الأسارى حتى انتهى الأمر إلى الرجل ، فقال أحد الرجلين : إن هذا قد جعل له الأمان ، فقال أبو موسى : فقد جعل له الأمان ، قال : إنه كان يسعى ذاهبا في الأرض ، وقلت له : مطرس ، فقام فقال أبو موسى : وما [ ص: 87 ] مطرس ؟ قال : لا تخف ، قال : هذا أمان فخليا سبيله ، فخليا سبيل الرجل .

                                                                                                                        19489 - قال : وحدثنا عباد بن العوام ، عن حصين بن أبي عطية ، قال : كتب عمر إلى أهل الكوفة أنه ذكر لي أن " مطرس " بلسان العرب والفارسية : لا تخف ، فإن قلتموها لمن لا يفهم لسانكم ، فهو آمن .

                                                                                                                        19490 - قال أبو عمر : إنما قال مالك في حديث عمر : ليس عليه العمل ؛ لأن فيه قتل المؤمن بالكافر ، وهذا أمر لم يجتمع بالمدينة عليه ، ولا بغيرها .

                                                                                                                        19491 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقتل مؤمن بكافر " وستأتي هذه المسألة - إن شاء الله في موضعها .

                                                                                                                        19492 - ولا خلاف علمته بين العلماء في أن من أمن حربيا بأي كلام لهم به الأمان ، فقد تم له الأمان .

                                                                                                                        19493 - وأكثرهم يجعلون الإشارة الأمان إذا كانت مفهومة بمنزلة الكلام .

                                                                                                                        19494 - وأمان الرفيع والوضيع جائز عند جماعة .

                                                                                                                        [ ص: 88 ] 19496 - وكان ابن الماجشون ، وسحنون يقولان : أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام له ، فإن أجازه له جاز ، فهو قول شاذ لا أعلم قال به غيرهما من أئمة الفتوى .

                                                                                                                        19497 - وقد روي معنى قولهما ، عن خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص .

                                                                                                                        19498 - وقد ذكرنا هذه المسألة ، وما للعلماء فيها في باب صلاة الضحى من كتاب الصلاة .

                                                                                                                        19499 - وأما أمان العبد ، فكان أبو حنيفة لا يجيزه إلا أن يقاتل .

                                                                                                                        [ ص: 89 ] 19500 - واختلف عن أبي يوسف في ذلك .

                                                                                                                        19501 - وقال محمد بن الحسن : يجوز أمانه ، وإن لم يقاتل .

                                                                                                                        19502 - وهو قول مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي .

                                                                                                                        19503 - وعن عمر من طرق أنه أجاز أمان العبد ، ولا خلاف في ذلك بين السلف إلا ما خرج مخرج الشذوذ .

                                                                                                                        19504 - روى سفيان بن عيينة ، عن عاصم الأحول ، عن فضيل الرقاشي ، قال : حاصرنا حصنا ، فمكثنا ما شاء الله لا نقدر على شيء منه ، وإذا هم قد فتحوا باب الحصن يوما ، وخرجوا إلينا ، فقلنا : ما لكم ؟ قالوا : قد أمنتمونا ، فقلنا : ما أمناكم فقالوا بلى ، فأخرجوا نشابة فيها كتاب أمان لهم كتبه عبد منا فقلنا : إنما هذا عبد ، ولا أمان له ، فقالوا : إنا لا نعلم العبد منكم من الحر ، فكففنا عنهم ، وكتبنا إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إلينا : إن العبد المسلم ذمته ذمة المسلمين ، فأجاز له الأمان .

                                                                                                                        19505 - قال أبو عمر : وهذا يحتمل التأويل .

                                                                                                                        19506 - أخبرنا سعيد ، قال : حدثنا قاسم : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن الحجاج ، عن [ ص: 90 ] الوليد بن أبي مالك ، عن عبد الرحمن بن سلمة : أن رجلا أجار قوما وهو مع عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وأبي عبيدة بن الجراح ، فقال عمرو ، وخالد : لا نجير من أجار ، فقال أبو عبيدة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يجير على المسلمين بعضهم .

                                                                                                                        19506 - وروى الأعمش ، ومنصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين .

                                                                                                                        19507 - وعن رفيع ، عن شريك ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن عمر ، قال : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين ، فيجوز أمانها .

                                                                                                                        19508 - حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم " .

                                                                                                                        19509 - قال : وحدثنا ابن نمير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجير على المسلمين [ ص: 91 ] أدناهم " .

                                                                                                                        19510 - وروى ابن أبي عمر ، وغيره ، عن ابن عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن بكير ، عن ابن عبد الرحمن بن الأشج ، قال : جاء رجل من أهلي إلى سعيد بن المسيب ، فقال : ألا نخبرك بما نصنع في مغازينا ؟ قال : لا ، ولكن إن شئت أخبرك بما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع في مغازيه ، قال : نعم .

                                                                                                                        19511 - قال سعيد : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى أهل قرية دعاهم إلى الإسلام ، فإن أجابوه خلطهم بنفسه وأصحابه . ، وإن أبوا دعاهم إلى الجزية ، فإن أعطوها قبلها ، وكف عنهم ، وإن أبو آذنهم على سواء ، وكان أدنى أصحابه إذا أعطاهم العهد وفوا به أجمعون
                                                                                                                        .

                                                                                                                        19512 - قال أبو عمر : وأما قول مالك : " إن الإشارة المفهومة بالأمان كالكلام " ، فالدلالة على ذلك من السنة موجودة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى أصحابه بعد أن كبر في الصلاة أن امكثوا ، ففهموا عنه وأشار إلى أبي بكر أن امكث ، ففهم عنه ، وقد رد السلام بالإشارة ، وهو في الصلاة ، ومثل هذا كثير .

                                                                                                                        19513 - وقال أبو مصعب : من لم يحسن طلب الأمان بلسانه ، فأشار بطلب ذلك ، فأشير له به ، فقد وجب له الأمان ، ولا يقتل .




                                                                                                                        الخدمات العلمية