الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1501 1473 - مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني ، عن أبيه ; أن رجلا من جهينة كان يسبق الحاج ، فيشتري الرواحل فيغلي بها ، ثم يسرع السير فيسبق الحاج ، فأفلس ، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب [ ص: 97 ] فقال : أما بعد أيها الناس ، فإن الأسيفع ; أسيفع جهينة ، رضي من دينه وأمانته بأن يقال : سبق الحاج ، ألا وإنه قد دان معرضا ، فأصبح قد رين به . فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة ، نقسم ماله بينهم ، وإياكم والدين ، فإن أوله هم وآخره حرب .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        33629 - قال أبو عمر : ويروى : قد دان ، وقد أدان ، ويروى بلا قد . وأكثر الرواة يروونه : قد دان معرضا ، كما رواه يحيى بن القاسم ، وابن بكير ، وغيرهم .

                                                                                                                        33630 - قال أبو عمر : أما قوله في هذا الخبر ، فأفلس ; فإنه أراد صار [ ص: 98 ] مفلسا ، وطلب الغرماء ماله ، فحال بينه ، وبين ماله ثم دعا غرماءه ليقسموها عليهم .

                                                                                                                        33631 - وهذا شأن من أحاط دين غرمائه بماله ، وقاموا عليه عند الحاكم يطلبونه ، وأثبتوا ديونهم عليه بما لا مدفع فيه .

                                                                                                                        33632 - واختلف الفقهاء في وجوه من هذا المعنى .

                                                                                                                        33633 - فقال مالك : إذا حبسه الحاكم في الدين لم يجز بعد إقراره ; لأن حبسه له تفليس .

                                                                                                                        33634 - وإنما قيل : من شاء من غرمائه ما لم يكن من الحاكم فيه ما وصفنا التفليس ، فإنه جائز إقراره ، وإن كان عليه دين .

                                                                                                                        33635 - قال : وإذا قام غرماؤه عليه على وجه التفليس ، فهو حجر أيضا .

                                                                                                                        33636 - وقال الثوري ، والحسن بن حي : إذا حبسه القاضي في الدين لم يكن محجورا عليه حتى يفلسه ، فيقول : لا أجير له أمرا .

                                                                                                                        33637 - وقال الأوزاعي : إذا كان عليه دين لم يجز عليه صدقته .

                                                                                                                        33638 - وهو قول الليث .

                                                                                                                        33639 - قال أبو عمر : قولهما هذا قد قال : بنحوه بعض أصحاب مالك ورووه عن مالك فيمن أحاط الدين بماله أنه لا يجوز له هبة ، ولا صدقة ، ولا عتق ، وإن لم يقف السلطان ماله ، ولم يضرب على يده ، ولم يمنعه التصرف في ماله من أجل قيام غرمائه عليه .

                                                                                                                        [ ص: 99 ] 33640 - وأما قول سائر الفقهاء ففعل من عليه دين جائز في هبته ، وصدقته ، وقضاء من شاء من غرمائه ما لم يكن من الحاكم فيه ما وصفنا .

                                                                                                                        33641 - واتفق مالك وأصحابه ، كلهم حاشا ابن القاسم أن السفيه الذي لم يحجر عليه أب ، ولا وصي ، ولا قاض أن أفعاله كلها نافذة حتى يضرب الحاكم على يديه .

                                                                                                                        33642 - وذكر المزني ، عن الشافعي ، قال : إذا رفع الذي يستحق التفليس إلى القاضي أشهد القاضي أنه قد أوقف ماله ، فإذا فعل لم يجز بيعه ، ولا هبته ، وما فعل من ذلك ، ففيه قولان :

                                                                                                                        ( أحدهما ) : أنه موقوف ، فإن فعل جاز .

                                                                                                                        ( والأخرى ) : أنه باطل .

                                                                                                                        33643 - وقال ابن أبي ليلى : إذا أفلسه الحاكم لم يجز بيعه ، ولا هبته ، ولا صدقته ، ويبيع القاضي ماله ، ويقضيه الغرماء .

                                                                                                                        33644 - وقال محمد في ( ( نوادر ابن سماعة ) ) : قال أهل المدينة : إذا كان عليه دين لم يجز إقراره لأحد أن يقضي ما عليه ، ولا عتقه ، ولا شيء يتلف به ماله حتى يقضي ما عليه .

                                                                                                                        [ ص: 100 ] 33645 - قال محمد : وقال القاسم بن معن : إذا أقر بدين فحبس له ، فحبسه حجر عليه ، ولا يجوز إقراره حتى يقضي الدين الأول .

                                                                                                                        33646 - وقال شريك مثل قوله .

                                                                                                                        33647 - وقال محمد بن الحسن : يجوز إقراره ، وبيعه ، وجميع ما صنع في ماله حتى يحجر القاضي عليه ، ويبطل إقراره بعد حبسه بالدين .

                                                                                                                        33648 - وكان أبو حنيفة لا يرى الحجر بالدين ، ومذهبه أن الحر لا يحجر عليه لدين ، ولا لسفه ، وخالفه في ذلك أصحابه .

                                                                                                                        33649 - وقال في البيع في الدين : لا يباع على المدين شيء من ماله ، ويحبس حتى يبيع هو إلا الدنانير والدراهم ، فإنها تباع عليه بعضها ببعض .

                                                                                                                        33650 - وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، ومالك ، والليث ، وسائر الفقهاء : يباع عليه كل شيء من ماله ، ويقضى غرماؤه ، فإن قام ماله بديونهم ، وإلا قسم بينهم على الحصص بقدر دين كل واحد منهم .

                                                                                                                        33651 - وأما قوله في حديث عمر ( ( الأسيفع ) ) فهو تصغير أسفع ، والأسفع الأسمر الشديد السمرة ، وقيل : الأسفع الذي تعلو وجهه حمرة تنحو إلى السواد .

                                                                                                                        [ ص: 101 ] 33652 - وقوله : ( ( أدان معرضا ) ) أي استدان متهاونا بذلك ، فأصبح قد رين به أي أحيط به ، يريد أحاط به غرماؤه ، وأحاط الدين به .

                                                                                                                        33653 - وذلك من معنى قول الله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم . . [ المطففين : 14 ] الآية ، أي غلب الدين على قلوبهم ، فاسود جميعها ، فلم تعرف معروفا ، ولا أنكرت منكرا .

                                                                                                                        33654 - وأما قوله في الدين : آخره حرب ، والحرب بتحريك الراء السلب ، ومنه قول العرب : رجل حريب أي سليب مسلوب .

                                                                                                                        33655 - قال الشاعر ، وهو القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي :


                                                                                                                        قوم إذا نزل الحريب بدارهم ردوه رد صواهل ونياق

                                                                                                                        .




                                                                                                                        الخدمات العلمية