الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإذا أمر الله جل وعز بدفع أموال اليتامى إليهم بأمرين لم يدفع إليهم إلا بهما ، وهو البلوغ والرشد ( قال الشافعي ) والرشد والله أعلم الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، اليتيم لا ينفك حجره إلا أن يكون رشيدا في دينه وماله .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إذا بلغ غير رشيد فك حجره إلا أن يكون مبذرا ، فيستدام الحجر عليه إلى خمس وعشرين سنة ثم يفك حجره ، وإن تصرف قبل استكمال خمس وعشرين سنة ببيع أو شراء صح تصرفه استدلالا بقوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] .

                                                                                                                                            فذكر الرشد منكرا فاقتضى رشدا " ما " وصلاحه لماله في حالة " ما " نوع من الرشد .

                                                                                                                                            ولأنه مكلف غير مبذر فوجب أن يفك حجره كالرشيد في دينه .

                                                                                                                                            ولأن بلوغ الكافر عاقلا يوجب فك حجره مع عدم الرشاد في دينه ، فالمسلم إذا بلغ [ ص: 349 ] عاقلا أولى بفك الحجر عنه : ولأن اليتيم محجور عليه في ماله ونكاحه ، فلما انفك الحجر عن نكاحه إذا بلغ عاقلا وجب أن يفك الحجر عن ماله إذا بلغ عاقلا .

                                                                                                                                            والدلالة على ما قلناه قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] فأمر بدفع أموالهم إليهم بشرطين : البلوغ والرشد ، فلم يجز أن يدفع إليهم بوجود البلوغ دون الرشد ، كما لا يجوز أن يدفع إليهم بوجود الرشد دون البلوغ ، فمن لم يكن مصلحا في دينه لا ينطلق اسم الرشد عليه .

                                                                                                                                            فإن قيل : فالرشد هو العقل كان الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الرشد عرفا مستعمل في صلاح الدين والمال ، فلم يجز أن يحمل على العقل وإن كان بعض شرائط الرشد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أمر باختباره قبل الرشد ، ومن لا عقل له لا يحتاج إلى اختبار لظهور أمره ، فكان حمله على من يشتبه أمره ليحتاج إلى اختبار أولى ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقبضوا على أيدي سفهائكم .

                                                                                                                                            والعادم للرشد سفيه فوجب أن يكون مقبوضا على يده ممنوعا من تصرفه في ماله ، ولأنه بلغ غير رشيد فوجب أن يمنع من ماله كالمجنون أو المبذر قبل الخمس والعشرين ، ولأنه ممنوع من ماله فوجب أن لا ينفذ تصرفه كالصغير ، ولأنه يملك ما ندب إليه من صلاحي رشده ، وهما صلاح نفسه بالدين وصلاح ماله بالقصد ، فلما كان صلاح ماله بالبلوغ معتبرا فأولى أن يكون صلاح نفسه معتبرا .

                                                                                                                                            فأما الآية فقد جعلناها دليلا لنا ، وما حملوها عليه مما انطلق عليه اسم رشد " ما " غير صحيح : لأن التلفظ بالشهادتين رشد ، ودفع الأذى من الطريق رشد ، وذلك مما لا يستحق به فك الحجر .

                                                                                                                                            وكذلك ما ذكروا لا يكون رشدا مطلقا ، والسفيه ليس برشيد لقوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم [ النساء : 5 ] .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الرشيد فالمعنى فيه الإصلاح في الدين والمال .

                                                                                                                                            وما ذكروه من النكاح " والمال " فهما سواء متى لم ينفك الحجر عن ماله لم ينفك عن نكاحه .

                                                                                                                                            وأما الكافر فهو رشيد في دين نفسه ، لأن الرشد هو أن ينتهي عما يعتقد تحريمه ، ويفعل ما يعتقد حسنه ووجوبه ، ولا اعتبار في رشده بما يعتقده الغير من قبح وحظر فكان اسم [ ص: 350 ] الرشد منطلقا عليه ، وإن كان كافرا يفك الحجر عنه .

                                                                                                                                            ولا ينطلق اسم الرشد على المسلم إذا كان فاسقا ، فلم يفك الحجر عنه ، كما يلي الكافر على مال ولده ولا يلي الفاسق على مال ولده .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية