الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : واستدل أبو حنيفة على أن طلاق الثلاث محرم وإن كان واقعا بقول الله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق : 1 ] .

                                                                                                                                            فتضمنت هذه الآية تفريق الطلاق في الأطهار من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : وأحصوا العدة وإحصاؤها إنما يكون انتظارا لوقوع الطلاق فيها . [ ص: 119 ] والثاني : قوله تعالى فيها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يريد به الرجعة والرجعة لا تكون في الثلاث . وإنما تكون فيما دون الثلاث .

                                                                                                                                            وبقوله تعالى : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] ، . فدل على أنه يجوز فيه أن يكون مرة .

                                                                                                                                            وبما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال : طلقت امرأتي وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هكذا أمرك ربك إنما السنة أن تستقبل بها الطهر ثم تطلقها في كل قرء طلقة وبما رواه الحسن عن ابن عمر أنه قال : طلقت امرأتي وهي حائض طلقة وأردت أن أتبعها طلقتين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : راجعها فقلت أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ فقال : كنت قد أبنت زوجتك وعصيت ربك . فلولا أن جمع الثلاث محرم ما كان به عاصيا .

                                                                                                                                            وبما رواه إبراهيم عن عبد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده أنه قال : طلق بعض آبائي امرأته ألفا . فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج ؟ فقال : إن أباكم لم يتق الله في ما فعل فيجعل له من أمره مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه . قال : ولأنه إجماع الصحابة . روي أن عمر بن الخطاب كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره .

                                                                                                                                            وأن رجلا أتى عبد الله بن عباس فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال ابن عباس إن عمك عصى الله فأندمه . وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا وأن عليا وابن عباس أنكراه فكان إجماعا ، لعدم المخالف فيه .

                                                                                                                                            ولأنه عدد يتعلق به البينونة فوجب أن يتكرر كاللعان .

                                                                                                                                            ودليلنا على الفريقين قول الله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ 236 ] .

                                                                                                                                            فكان رفع الجناح عنه من غير تمييز لعدد يوجب التسوية بين الأعداد . [ ص: 120 ] وروى سهل بن سعد الساعدي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته قال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا .

                                                                                                                                            فلو كان الجمع بين الطلاق والثلاث محرما لأبانه صلى الله عليه وسلم وأنكره ، لأنه لا يقر على منكر .

                                                                                                                                            وروي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : ما أردت بالبتة قال واحدة فأحلفه أنه ما أراد أكثر منها فدل على وقوع الثلاث لو أرادها من غير تحريم .

                                                                                                                                            وروى سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن عمرو بن المغيرة طلق فاطمة بنت قيس ثلاثا بكلمة واحدة . فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            وأن عبد الرحمن بن عوف طلق تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاثا في مرضه فلم ينكره الصحابة عليه ، وتماضر هي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن ، فدل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة بعده على إباحة الجمع بين الثلاث ، وروي عن الحسن بن علي أن امرأته عائشة الخثعمية قالت له بعد قتل أبيه : لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال لها : أويقتل أمير المؤمنين وتشمتين اذهبي فأنت طالق ثلاثا ، فلم ينكر ذاك أحد من الصحابة فدل على إباحته عندهم .

                                                                                                                                            وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن طلق امرأته مائة طلقة فقال : ثلاثة لها وأقسم الباقي على نسائها .

                                                                                                                                            ومن القياس أنه طلاق وقع في طهر لم يجامعها فيه فوجب أن يكون مباحا كالطلقة الأولى ، ولأن كل طلاق جاز تفريقه جاز جمعه . أصله طلاق الزوجات يجوز أن يجمعهن في الطلاق وأن يفرقهن .

                                                                                                                                            ولأن كل طلاق جاز تفريقه في الأطهار جاز إيقاعه في طهر . أصله إذا طلق في طهر ثم راجع فيه ثم طلقها فيه ثم راجع ثم طلقها فيه ثم راجع . [ ص: 121 ] ولأن الثلاث لفظ يقطع الرجعة فجاز إيقاعه في طهر جامع فيه كالواحدة بعد اثنتين أو كالخلع .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله تعالى : الطلاق مرتان فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المقصود به عدد الطلاق ، وأنه ثلاث وأنه يملك الرجعة بعد اثنتين ولا يملكها بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ولم يرد به تفريق الطلاق أو جمعه .

                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : الطلاق مرتان يقتضي في وقت واحد لا في وقتين كما قال تعالى : نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] يعني أجرين في وقت واحد . لا في وقتين . وهم يحرمون وقوع الطلقتين في وقت كما يحرمون وقوع الثلاث .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الاستدلال بحديث ابن عمر . فهو أنه لم يطلق إلا واحدة في الحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لو طلقتها ثلاثا كنت قد أبنت امرأتك وعصيت ربك . يعني بإيقاعهن في الحيض لا بالجمع بينهن .

                                                                                                                                            وأما أمره له في الخبر الثاني أن يطلق في كل طهر واحدة فعلى طريق الاستحباب والندب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث البراء بن عازب فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الدارقطني رواه وذكر أنه ضعيف مجهول الراوي .

                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : طلقها على غير السنة : لأنه طلقها ألفا وهو لا يملك إلا ثلاثا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالإجماع فهو غير منعقد بمن ذكرنا خلافه من الصحابة وقد اختلفت الرواية عن ابن عباس ، روى سعيد بن جبير أن رجلا أتى ابن عباس فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال : أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك ، وبقيتهن وزرا اتخذت آيات الله هزوا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على اللعان فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن الفرقة لا تقع على قولهم باللعان حتى يوقعها الحاكم فلم يجز أن يكون أصلا لما يوقع الفرقة .

                                                                                                                                            والثاني : أن عدد اللعان لا يصح مجموعه فوجب تفريقه . والطلاق يصح مجموعه فلم يجب تفريقه .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما جاز عدد اللعان في وقت واحد اقتضى أن يجوز عدد الطلاق في وقت واحد .

                                                                                                                                            وأما استدلال من أنكر وقوع الثلاث بحديث ابن عباس عن عمر : فهو ضعيف لا يعرفه أصحاب الحديث . ولو سلمناه لاحتمل قوله : كان الطلاق على عهد رسول [ ص: 122 ] الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة فقال عمر : قد استعجلتم في أمر كان لكم فيه أناة . وجعله ثلاثا .

                                                                                                                                            فمن قال لامرأته : أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنه إن أراد بالثانية والثالثة طلقت واحدة . وإن أراد الاستئناف طلقت ثلاثا .

                                                                                                                                            وإن لم يكن له إرادة فعلى قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : قاله في الإملاء تطلق واحدة .

                                                                                                                                            والثاني : قاله في " الأم " تطلق ثلاثا .

                                                                                                                                            فعلم عمر أنهم كانوا يريدون به التأكيد فتكون واحدة ، ثم صاروا يريدون به التأكيد فجعلها ثلاثا . وإنما حملناه على هذا الاحتمال مع بعده : لأن عمر لا يجوز أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء عمله من دينه . ولو خالفه لما أقرته الصحابة على خلافه .

                                                                                                                                            ألا تراه يقول : لا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت مكرمة لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقامت إليه امرأة فقالت : يعطينا الله وتمنعنا يا ابن الخطاب قال الله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] ، فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر حتى امرأة ليفعل الرجل بماله ما شاء . وهم أن يخالف بين ديات الأصابع حتى ذكر له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل . فرجع . عما هم به وسوى بين دياتها .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بما رووه عن ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثا ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها فلا يعرفه أهل الحديث . وإنما الخبر أنه قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ فقال كنت قد أبنت امرأتك وعصيت ربك .

                                                                                                                                            ولو صح لكان محمولا على أنه طلقها ثلاثا في ثلاثة أوقات . فأمره بالرجعة في إحداهن بل قد روي أنه طلقها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها ثانية على عهد أبي بكر ، ثم طلقها ثالثة في زمن عمر . فضبط الرواة طلاقه على ما ذكرنا . فاقتضى أن يكون رواية من أطلق محمولة على هذا البيان والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية