الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين فهي واحدة ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا فهي ثلاث إنما يجوز الاستثناء إذا بقى شيئا فإذا لم يبق شيئا فمحال " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الاستثناء فهو ضد المستثنى منه ، لأنه يخرج منه ما لولاه لكان داخلا فيه ، فيكون من الإثبات نفيا ومن النفي إثباتا ، فإذا قال : جاءني القوم إلا [ ص: 249 ] زيدا ، فقد أثبت مجيء القوم إليه ، ونفى مجيء زيد إليه ، لاستثنائه منهم ولو قال : ما جاءني أحد إلا زيدا ، فقد نفى مجيء أحد وأثبت مجيء زيد لاستثنائه ممن نفى ، وإذا عاد الاستثناء إلى جملة ، كان المراد بها ، ما بقي بعد الاستثناء منها ، فإذا قال : له عشرة إلا ثلاثة كان إقراره بسبعة ، ولم يكن فرق بين أن يقول مبتدئا : علي سبعة وبين قوله : له علي عشرة إلا ثلاثة .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ العنكبوت : 14 ] . فكان كقوله : تسعمائة وخمسين عاما ، ويجوز أن يأتي استثناء ثاني بعد أول ، وثالث بعد ثاني فيعود الأول إلى المستثنى نقص فيه إثباتا كان الاستثناء الأول نفيا ، والثاني إثباتا ، والثالث نفيا لما ذكرنا ، من أن حكم الاستثناء ضد حكم المستثنى منه .

                                                                                                                                            مثاله : أن يقول : له عشرة إلا سبعة إلا خمسة ، فيكون مقرا بثمانية ، لأن قوله له علي عشرة إثبات ، فكان قوله إلا سبعة نفيا لها من العشرة ، فسقطت منها بقيت ثلاثا ، فلما قال : إلا خمسة عاد إلى السبعة وهي نفي ، فكانت الخمسة إثباتا فزيدت على الثلاثة الباقية من العشرة ، فصارت ثمانية ، وصار مستثنا لاثنتين من عشرة ، لأن الخمسة المستثناة من السبعة يبقى منها اثنتان فصار هو المستثنى من العشرة ، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله في قصة إبراهيم ولوط : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته [ الحجر : 58 ، 60 ] فاستثنى آل لوط بالنجاة من القوم المجرمين في الهلاك ثم استثنى امرأة لوط من آل لوط المنجون من الهلاك ، فصارت من الهالكين ، فأما إذا كان بعد الاستثناء الأول يأتي بواو العطف ، كانا استثناء واحدا كقوله : علي عشرة إلا أربعة إلا ثلاثة ، فيكون كقوله : علي عشرة إلا سبعة ، فيكون عليه ثلاثة ، لأن واو العطف تجمع بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ، ومتى كان الاستثناء رافعا لجميع المستثنى منه بطل الاستثناء وثبت المستثنى منه ، كقوله له علي عشرة إلا عشرة ، ثبت إقراره بالعشرة وبطل استثناؤه للعشرة ، لأن الاستثناء موضوع لإبقاء بعض الجملة لا لرفعها ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول : جاء بنو تميم إلا بني تميم ، ويحسن أن يقول : إلا الصبيان ، لأنه في الأول رافع ، وفي الثاني مبق ، ويجوز أن يكون الاستثناء رافعا للأول ، مبقيا للأكثر إجماعا ، كقوله : علي عشرة إلا درهما ، فيبقى تسعة يكون مقرا بها . فأما إذا كان رافعا للأكثر مبقيا للأقل جاز على قول جميع الفقهاء وأكثر أهل العربية ، فيقول : له علي عشرة إلا تسعة ، فيكون مقرا بدرهم . وحكي عن ابن درستويه من النحاة ، أنه أبطل الاستثناء إذا كان رفع الأكثر ، وأبقى الأقل وهو قول مطرح ، لأن القرآن يدفعه . قال الله تعالى : قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص: 250 ] [ الحجر : 39 ، 40 ] . فاستثنى المخلصين المؤمنين ، ونفى الكافرين ثم قال بعدها : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر : 42 ] . فاستثنى الغاوين من الكافرين ونفى المؤمنين ، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر على أن الكفار أكثر لقوله : ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف : 17 ] . فدل على جواز الاستثناء للأكثر وقال الشاعر :


                                                                                                                                            أدوا التي نقصت تسعين عن مائة 206 ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا

                                                                                                                                            فاستثنى تسعين من مائة وهي الأكثر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية