الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو قال لعربي : يا نبطي . فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان . أحلفته ما أراد أن ينسبه إلى النبط ، ونهيته أن يعود ، وأدبته على الأذى . فإن لم يحلف حلف المقذوف : لقد أراد نفيه ، وحد له ، فإن عفا فلا حد له . وإن قال : عنيت بالقذف الأب الجاهلي . حلف وعزر على الأذى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، لأن قوله للعربي : يا نبطي ، يحتمل أن يريد نفيه من نسب العرب فيكون قذفا ، ويحتمل أن يريد أنه نبطي الدار ، أو اللسان فلا يكون قذفا . فخرج من صريح القذف إلى كنايته ، فوجب أن يسأل عن مراده ، فإن قال : لم أرد به القذف بل أردت به نبطي الدار واللسان . كان القول قوله مع يمينه ، ولا حد عليه . ثم ينظر في مخرج كلامه ، فإن لم يرد به الدم والنسب فلا يعزر عليه ، وإن أراد به دمه ونسبه عزر للأذى ، فإن نكل عن اليمين حلف المقذوف لقد أراد به نفي نسبي ، وصار قاذفا على ما سنذكره ، وإن قال : أردت به نفي نسبه من العرب وإضافته إلى نسب النبط ، صار قاذفا لإحدى أمهاته ، فيسأل عمن أراد قذفها منهن ، فإنه لا يخلو حالهن من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يريد قذف أم أب من آبائه في الجاهلية ، فيكون قاذفا لكافرة فلا يجب عليه الحد ، لكن يعزر .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يريد أم أب من آبائه في الإسلام ، فيكون قاذفا لأم الأب الذي أراده فيجب في قذفها الحد : لأنها مسلمة ، ويكون ذلك للأم إن كانت باقية هي المستحقة لحده ، فإن ماتت فولدها إن كان باقيا ، فإن مات فلوارثه ، فإن كان منهم ورث الحد معهم ، وإن لم يكن منهم لوجود من هو أقرب كان الأقرب أحق بالحد : لأنه أحق بالميراث . فإن عفا الأقرب عنه ففي استحقاق هذا الأبعد له وجهان مخرجان من اختلاف أقاويله في ميراث هذا الحد ، هل يجري مجرى ميراث الأموال أو لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا حق له فيه ، إذا قيل إنه يورث ميراث الأموال .

                                                                                                                                            [ ص: 264 ] والوجه الثاني : يستحقه بعد عفو الأقرب ، إذا قيل : إنه يختص بالعصبات لنفي العار عنهم .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يريد أمه التي ولدته فيكون قاذفا لها ، فإن كانت باقية كان الحد مستحقا لها ، فإن عفت عنه فلا حق لولدها وجها واحدا ، بخلاف ما قدمناه من عفو الأقرب في أحد الوجهين .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن الأم في استحقاقه أصل فلم يجز أن ينتقل إلى وارثها مع سقوطه بعفوها ، وليس كذلك الأقرب : لأنه فرع يجري عفوه مجرى عدمه ، فجاز أن ينتقل إلى غيره ، وإن كان أبعد منه ، فأما إن كانت الأم ميتة فهو يستحق الحد ميراثا عنها ، فإن عفا عنه وكان لها وارث غيره في درجته فله استيفاء الحد ولا يسقط بالعفو ، وإن كان لها من لا يرث مع الابن كالإخوة ، ففي استحقاقهم للحد بعد عفو الابن على ما قدمناه من الوجهين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية