الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في بيان حكم صوم الكفارة المرتبة

                                                                                                                                                                        فيه مسائل

                                                                                                                                                                        إحداها : يجب أن ينوي صوم الكفارة في الليل لكل يوم ، ولا يجب تعيين جهة الكفارة ، ولا يجب نية التتابع على الأصح ، وقيل : تجب في أول ليلة فقط ، ولو نوى الصوم بالليل قبل طلب الرقبة ، ثم طلب فلم يجدها ، لم يجزئه صومه إلا أن يجدد النية في الليل بعد الفقد ، لأن تلك النية تقدمت على وقت جواز الصوم ، ذكره الروياني في " التجربة " .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : لو مات وعليه صوم كفارة ، فهل يصوم عنه وليه ؟ فيه قولان ، سبقا في كتاب الصيام .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إن ابتدأ بالصوم لأول شهر هلالي ، صام شهرين بالأهلة ، ولا يضر نقصهما ، وإن ابتدأ في خلال شهر ، صام بقيته ، ثم صام الذي يليه بالهلال ، ولا يضر نقصه ، ثم يتم الأول من الثالث ثلاثين يوما ، وفي وجه شاذ ، إذا ابتدأ في خلال شهر ، لزمه ستون يوما . [ ص: 302 ] الرابعة : التتابع في الصوم واجب بنص القرآن ، فلو وطئ المظاهر بالليل قبل تمام الشهرين ، عصى بتقديم التكفير ، ولكن لا يقطع التتابع .

                                                                                                                                                                        ولو أفسد صوم اليوم الآخر أو غيره ، لزمه استئناف الشهرين . وهل يحكم بفساد ما مضى ، أم ينقلب نفلا ؟ فيه قولان فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال ونظائره . والحيض لا يقطع التتابع في صوم كفارة القتل والوقاع في رمضان إن لزمتها كفارة ، فتبني إذا طهرت ، والنفاس لا يقطع التتابع على الصحيح ، كالحيض . وقيل : يقطعه لندرته ، حكاه أبو الفرج السرخسي . والفطر بعذر المرض يقطع التتابع على الأظهر ، وهو الجديد ، لأنه لا ينافي الصوم ، وإنما قطعه بفعله ، بخلاف الحيض ، والجنون كالحيض على المذهب . وقيل : كالمرض ، والإغماء كالجنون . وقيل : كالمرض . وأما الفطر بالسفر ، وفطر الحامل والمرضع خوفا على الولد ، فقيل : كالمرض . وقيل : يقطع قطعا ، لأنه باختياره .

                                                                                                                                                                        قلت : أطلق الجمهور أن الحيض لا يقطع التتابع ، وذكر المتولي ، أنها لو كانت لها عادة في الطهر تمتد شهرين ، فشرعت في الصوم في وقت يتخلله الحيض ، انقطع ، ولو أفطرت الحامل والمرضع خوفا في نفسيهما ، فقال المحاملي في المجموع ، وصاحبا " الحاوي " و " الشامل " والأكثرون : هو كالمرض .

                                                                                                                                                                        وفي تجريد المحاملي : أنه لا ينقطع قطعا ، ولو غلبه الجوع فأفطر ، بطل التتابع . وقيل : كالمرض ، ذكره البغوي . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        نسيان النية في بعض الليالي ، يقطع التتابع كتركها عمدا ، ولا يجعل النسيان عذرا في ترك المأمور به .

                                                                                                                                                                        قلت : لو صام أياما من الشهرين ، ثم شك بعد فراغه من صوم يوم ، هل نوى [ ص: 303 ] فيه ، أم لا ؟ لم يلزمه الاستئناف على الصحيح ، ولا أثر للشك بعد الفراغ من اليوم ، ذكره الروياني في كتاب الحيض في مسائل المتحيرة . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو أكره على الأكل فأكل ، وقلنا : يبطل صومه ، انقطع تتابعه ، لأنه سبب نادر ، هذا هو المذهب في الصورتين ، وبه قطع الجمهور ، وجعلهما ابن كج كالمرض ، قال : ولو استنشق ، فوصل الماء إلى دماغه ، وقلنا : يفطر ، ففي انقطاع التتابع الخلاف .

                                                                                                                                                                        قلت : لو أوجر الطعام مكرها ، لم يفطر ، ولم ينقطع تتابعه ، هكذا قطع به الأصحاب في كل الطرق ، وشذ المحاملي فحكى في التجريد وجها أنه يفطر وينقطع تتابعه ، وهذا غلط . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو ابتدأ بالصوم في وقت يدخل عليه رمضان قبل تمام الشهرين ، أو يدخل يوم النحر ، لم يجزئه عن الكفارة . قال الإمام : ويعود القولان في أنه يبطل أم يقع نفلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو صام رمضان بنية الكفارة ، لم يجزئه عن واحد منهما ، ولو نواهما ، لم يجزئه عن واحد منهما أيضا . وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي عبيد بن حربويه ، أنه يجزئه عنهما جميعا ، وغلطه فيه . وفي كتاب ابن كج ، أن الأسير إذا صام عن الكفارة بالاجتهاد ، فغلط فجاء رمضان أو يوم النحر قبل تمام الشهرين ، ففي انقطاع التتابع الخلاف في انقطاعه بإفطار المريض .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا أوجبنا التتابع في كفارة اليمين ، فحاضت في خلال الأيام الثلاثة ، فقيل : [ ص: 304 ] فيه قولان ، كالفطر بالمرض في الشهرين ، ويشبه أن يكون فيه طريق جازم ، بانقطاع التتابع .

                                                                                                                                                                        قلت : صرح بالطريقة الجازمة ، الدارمي وصاحب " التتمة " فقالا : المذهب انقطاعه ، ذكره الدارمي في كتاب الصيام ، وفيه طريق ثالث ، أنه لا ينقطع قطعا ، لأن وجوب التتابع في كفارة اليمين هو القول القديم ، والمرض لا يقطع على القديم ، ذكر ذلك صاحبا الإبانة والعدة وغيرهما . قال صاحب " التتمة " : هذا غلط ، لأنه يمكنها الاحتراز بالثلاثة عن الحيض دون المرض . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        المسألة الخامسة : لو شرع في صوم الشهرين ، ثم أراد أن يقطع ويستأنف بعد ذلك ، فقد ذكروا في جوازه احتمالين . أحدهما : يجوز كما يجوز تأخير الابتداء ، لأنه ليس فيه إبطال عبادة ، فكل يوم عبادة مستقلة .

                                                                                                                                                                        والثاني : لا يجوز ، لأنه يبطل صفة الفرضية ، ويجري الاحتمالان في الحائض وغيرها ، فيمن شرع في الشهرين ، ثم عرض فطر لا يقطع التتابع ، ثم زال فأراد الفطر بلا عذر ، ثم يستأنف ، ثم الاحتمال الأول أرجح عند الغزالي . وقال الروياني : الذي يقتضيه قياس المذهب ، أنه لا يجوز ، لأن الشهرين عبادة واحدة ، كصوم يوم ، فيكون قطعه كقطع فريضة شرع فيها ، وذلك لا يجوز ، وهذا حسن . قال الإمام : والمسألة فيما إذا لم ينو صوم الغد ، وقال : الإفطار في اليوم الذي شرع فيه لبعد التسليط عليه وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية