الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا قذف جماعة ، فهم ضربان . أحدهما : أن يتمحضوا أجانب أو زوجات ، والثاني : أن يكونوا من الصنفين ، الأول : المتمحضون ، فإما أن يقذفهم بكلمات ، وإما بكلمة ، فهما حالان .

                                                                                                                                                                        الأول : أن يقذف كل واحد بكلمة ، فعليه لكل واحد حد ، وإن كن زوجات ، أفرد كل واحد بلعان ، ويكون اللعان على ترتيب قذفهن ، فلو لاعن عنهن لعانا واحدا ، لم يكف عن الجميع ، لكن ، إن سماهن ، حسب عن التي سماها أولا ، وإن أشار إليهن فقط ، لم يعتد به عن واحدة منهن .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يقذفهم بكلمة ، كقوله : زنيتم ، أو أنتم زناة ، فقولان . الجديد : أن لكل واحد حدا ، والقديم : لا يجب إلا حد واحد ، فعلى هذا ، إن حضر واحد وطلب الحد ، حد له ، وسقط حق الباقين .

                                                                                                                                                                        ولو قال : يابن الزانيين ، فهو قذف لأبوي المخاطب بكلمة ، ففيه القولان ، وإن قال لنسوته الأربع : زنيتن ، فالحد على القولين ، فإن أراد اللعان ، فإن [ ص: 347 ] قلنا : يتعدد الحد ؛ تعدد اللعان ، وإن قلنا : يتحد الحد ، ففي اللعان وجهان ، أصحهما : يتعدد ، لأن اللعان يمين ، والأيمان المتعلقة بحقوق جماعة لا تتداخل . والثاني : يكفي لعان يجمعهن فيه ، بالاسم أو بالإشارة إن اكتفينا بها ، وإذا قلنا بالتعدد ، فرضين بلعان واحد ، لم ينفع كما لو رضي المدعون بيمين واحدة ، ثم يلاعن عنهن على الترتيب الذي يتفقن عليه ، فإن تنازعن في الابتداء ، أقرع بينهن ، فإن قدم الحاكم واحدة ، قال الشافعي رضي الله عنه : رجوت أن لا يأثم .

                                                                                                                                                                        ونقل القاضي أبو الطيب أن ذلك فيما إذا لم يقصد تفضيل بعضهن ويجنب الميل ، وإن قلنا بالاتحاد ، فذلك إذا توافقن على الطلب ، أو لم نشترط طلبهن ، أما إذا شرطناه وانفرد بعضهن بالطلب ، فلاعن ، ثم طلب الباقيات ، احتاج إلى اللعان ، وحصل التعدد . وإذا لاعن عنهن ، لزمهن الحد ، فمن لاعنت ، سقط عنها الحد ، ومن امتنعت حدت ، وإذا امتنع من اللعان ، كفاه حد واحد على قولنا بالاتحاد ، وجميع ما ذكرناه هو فيمن قذف جماعة بكلمة ولم يقيد بزنا واحد . فإن قيد ، بأن قال لزوجته أو أجنبية : زنيت بفلان ، فطريقان . أصحهما : طرد القولين في تعدد الحد واتحاده . والثاني : القطع بالاتحاد لأنه رماهما بفاحشة واحدة .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أن يكونوا من الصنفين ، بأن قذف زوجته وأجنبية ، نظر إن كان بكلمتين ، فعليه حدان ، فإن لاعن عن زوجته ، سقط حدها ، وبقي حد الأجنبية . ولو قال لزوجته : يا زانية بنت الزانية ، أو زنيت وزنت أمك ، فعليه حدان لهما ، فإن حضرتا معا وطلبتا الحدين ، فثلاثة أوجه . أصحهما وهو المنصوص : يبدأ بحد الأم ، لأن حقها أقوى ، فإنه لا يسقط باللعان . والثاني : يبدأ بالبنت لسبقها . والثالث : يقرع . ولو قال لأجنبية : يا زانية بنت الزانية ، قدمت البنت على الأصح . وقيل : يقرع . ولو قال لأم زوجته : يا زانية أم [ ص: 348 ] الزانية ، قدمت الأم على الأصح . وقيل : يقرع . ولو قذف زوجته وأجنبية بكلمة ، كقوله : زنيتما ، أو أنتما زانيتان ، ولم يلاعن للزوجة ، ففي تعدد الحد واتحاده طريقان . أصحهما : فيه القولان السابقان . والثاني : القطع بالتعدد لاختلافهما في الحكم ، فإن حد الزوجة يسقط باللعان دون الآخر ، فإن قلنا بالاتحاد ، فجاءت الأجنبية مطالبة ، فحد لها ، سقط الحد واللعان في الزوجة ، إلا أن يكون ولد يريد نفيه . وإن لاعن للزوجة ، حد للأجنبية ، وإن عفت إحداهما ، حد للأخرى إذا طلبت بلا خلاف ، ذكره البغوي وغيره . وحكي وجه شاذ ، أن قوله : يا زانية بنت الزانية ، كقوله : أنتما زانيتان ، ومتى وجد حدان لواحد أو جماعة وأقيم أحدهما ، أمهل إلى أن يبرأ جلده ، ثم يقام الثاني .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        ادعت أن زوجها قذفها ، فله في الجواب أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن تسكت فيقيم عليه بينة ، فله أن يلاعن ويقول في لعانه : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما أثبتت علي من رميي إياها بالزنا .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يقول في الجواب : لا يلزمني الحد ، فيقيم عليه بالبينة ، فله اللعان أيضا .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن ينكر القذف ، فيقيم عليه بينة ، ثم يريد اللعان ، فإن أول إنكاره ، وقال : أردت أن ما رميتها به ليس بقذف باطل ، بل هو صدق ، أو أنشأ في الحال قذفا آخر ، فله اللعان ، لأن من كرر القذف كفاه لعان واحد . وإن لم يذكر تأويلا ولا أنشأ ، فله اللعان أيضا على الصحيح ، وبه قال الأكثرون وهو ظاهر النص لاحتمال التأويل المذكور .

                                                                                                                                                                        الرابع : أن يقول : ما قذفتك وما زنيت ، فإذا قامت بينة ، حد ولا لعان ، لأنه شهد بعفتها ، فكيف يحقق زناها بلعانه ؟ ! وليس له إقامة البينة على [ ص: 349 ] زناها والحالة هذه ، لأنه يكذب الشهود بقوله : وما زنيت . ولو أنشأ والحالة هذه قذفا ، فعن القاضي حسين إطلاق القول بجواز اللعان . قال الإمام والغزالي : هذا محمول على ما إذا مضى بعد الدعوى والجواب زمن يمكن تقدير الزنا فيه ، وإلا فيؤاخذ بإقراره ببراءتها ، ولا يمكن من اللعان . وإذا لاعن ، ففي سقوط حد القذف الذي قامت به البينة وجهان ، ومقتضى كلام الغزالي في " الوجيز " : القطع بسقوطه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو امتنع الزوج من اللعان فعرض الحد ، أو استوفى منه بعض الجلدات ، ثم بدا له أن يلاعن ، مكن ، وإذا لاعن ، سقط عنه ما بقي من الحد كما لو بدا له أن يقيم فيه البينة ، وكذا المرأة إذا امتنعت من اللعان ثم عادت إليه ، مكنت منه ، وسقط عنها ما بقي من الحد . ولو أقيم عليه الحد بتمامه ثم أراد اللعان ، فالمذهب أنه إن كان ولد منه ، لاعن لنفيه ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قال لزوجته : زنيت وأنت صغيرة ، فقد أطلق الغزالي والبغوي ، أن عليه التعزير ، وله إسقاطه باللعان على الصحيح ، وفصل الجمهور ، فقالوا : يؤمر ببيان الصغر ، فإن ذكر سنا لا يحتمل الوطء كثلاث سنين أو أربع ، فليس بقذف ويعزر للسب والإيذاء ، ولا لعان ، كما سبق أن مثل هذا لا لعان فيه . وإن ذكر سنا يحتمله ، كعشر سنين ، فهو قذف ، وعليه التعزير ، وله إسقاطه باللعان . ولو قال : زنيت وأنت مجنونة ، أو مشركة ، أو أمة ، فإن عرفت لها هذه الأحوال ، أو ثبتت ببينة أو إقرار ، فلا حد ، وعليه التعزير ، وله إسقاطه [ ص: 350 ] باللعان ، وإن عرف ولادتها على الإسلام والحرية وسلامة عقلها ، وجب الحد على الصحيح وقيل : التعزير ، لأنها إذا لم يكن لها تلك الحالة ، كان قوله كذبا ومحالا ، كقوله : زنيت وأنت رتقاء ، وإن لم يعلن حالها واختلفا ، فأيهما يصدق بيمينه ، قولان . أظهرهما : هي ، فإن نكلت ، حلف ، ووجب التعزير . والثاني : هو ، فإن نكل ، حلفت وحد ، ويجيء القولان فيما لو قال الزوج : أنت أمة في الحال ، فقالت : بل حرة ، ولا يجيئان فيما لو قال : أنت كافرة في الحال ، فقالت : بل مسلمة ، لأنها إذا قالت : أنا مسلمة حكم بإسلامها . ولو قالت : أردت بقولك لي : زنيت وأنت صغيرة قذفي في الحال ، ووصفي بالصغر في الحال ، ولم ترد القذف بزنا في الصغر ، أو قال : زنيت وأنت مجنونة أو كافرة ، فأقرت بتلك الحال ، وقالت : أردت القذف في الحال ، فعن الشيخ أبي حامد ، أن القول قولها ، واستبعده ابن الصباغ وغيره . ولو أطلق النسبة إلى الزنا ، ثم قال : أردت في الصغر أو الجنون ، أو الكفر ، أو الرق ، لم يقبل منه على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، سواء عهد لها ذلك الحال أم لا . فإن قال : هي تعلم أني أردت هذا ، حلفت على نفي العلم ، وحد لها . وقال السرخسي : إن عهد تلك الحال ، قبل وعزر ، وإلا فقولان .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية