الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        النوع الخامس : الجماع . وهو مفسد للحج إن وقع قبل التحللين ، سواء قبل الوقوف وبعده . وإن وقع بينهما ، لم يفسد على المذهب : وحكي وجه : أنه يفسد . وقول قديم : أنه يخرج إلى أدنى الحل ، ويجدد منه إحراما ، ويأتي بعمل عمرة . وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل . وقد قدمنا أنه ليس لها إلا تحلل واحد فإن قلنا : الحلق نسك ، فهو مما يقف التحلل عليه ، وإلا فلا . واللواط كالجماع . وكذا إتيان البهيمة على الصحيح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما سوى الحج والعمرة من العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ، ويخرج منها بالفساد . وأما الحج والعمرة ، فيجب المضي في فاسدهما ، وهو إتمام ما كان يعمله لولا الفساد .

                                                                                                                                                                        [ ص: 139 ] فرع

                                                                                                                                                                        يجب على مفسد الحج [ بالجماع ] بدنة . وعلى مفسد العمرة أيضا بدنة على الصحيح ، و [ على ] الثاني : شاة . ولو جامع بين التحللين ، وقلنا : لا يفسد ، لزمه شاة على الأظهر ، وبدنة على الثاني . وفيه وجه : أنه لا شيء عليه ، وهو شاذ منكر . ولو أفسد حجه بالجماع ، ثم جامع ثانيا ، ففيه خلاف تجمعه أقوال . أظهرها : يجب بالجماع الثاني شاة . والثاني : بدنة . والثالث : لا شيء فيه . والرابع : إن كان كفر عن الأول ، فدى الثاني ، وإلا فلا . والخامس : إن طال الزمان بين الجماعين ، أو اختلف المجلس فدى [ عن ] الثاني ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يجب على مفسد الحج القضاء بالاتفاق سواء كان الحج فرضا أو تطوعا ، ويقع القضاء عن المفسد . فإن كان فرضا وقع عنه ، وإن كان تطوعا فعنه . ولو أفسد القضاء بالجماع لزمه الكفارة ، ولزمه قضاء واحد . ويتصور القضاء في عام الإفساد ، بأن يحصر بعد الإفساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد ، فيتحلل ثم يزول الحصر والوقت باق ، فيشتغل بالقضاء . وفي وقت القضاء وجهان . أصحهما : على الفور . والثاني : على التراخي . فإن كان أحرم في الأداء قبل الميقات من دويرة أهله أو غيرها لزمه أن يحرم في القضاء من ذلك الموضع . فإن جاوزه غير محرم لزمه دم . كالميقات الشرعي . وإن كان أحرم من الميقات أحرم منه في القضاء . وإن كان أحرم بعد مجاوزة الميقات ، نظر إن جاوزه مسيئا لزمه في القضاء الإحرام من الميقات الشرعي ، وليس له أن يسئ ثانيا . وهذا [ ص: 140 ] معنى قول الأصحاب : يحرم في القضاء من أغلظ الموضعين من الميقات ، أو من حيث أحرم في الأداء . وإن جاوزه غير مسيء ، بأن لم يرد النسك ، ثم بدا له ، فأحرم ثم أفسد فوجهان . أصحهما وبه قطع صاحب " التهذيب " وغيره : أن عليه أن يحرم في القضاء من الميقات الشرعي . والثاني : له أن يحرم من ذلك الموضع ليسلك بالقضاء مسلك الأداء . ولهذا لو اعتمر من الميقات ، ثم أحرم بالحج من مكة ، وأفسده كفاه في القضاء أن يحرم من نفس مكة .

                                                                                                                                                                        ولو أفرد الحج ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل ، ثم أفسدها ، كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل . والوجهان فيمن لم يرجع إلى الميقات . أما لو رجع ثم عاد ، فلا بد من الإحرام من الميقات . ولا يجب أن يحرم بالقضاء في الزمن الذي أحرم منه بالأداء ، بل له التأخير عنه ، بخلاف المكان . والفرق أن اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل ، فإن مكان الإحرام يتعين بالنذر ، وزمانه لا يتعين . حتى لو نذر الإحرام في شوال له تأخيره . وأظن أن هذا الاستشهاد لا يخلو من نزاع .

                                                                                                                                                                        قلت : ولا يلزمه في القضاء ، أن يسلك الطريق الذي سلكه في الأداء بلا خلاف ، لكن يشترط إذا سلك غيره أن يحرم من قدر مسافة الإحرام في الأداء . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كانت المرأة محرمة أيضا ، نظر إن جامعها مكرهة أو نائمة ، لم يفسد حجها . وإن كانت طائعة عالمة فسد . وحينئذ ، هل يجب على كل واحد منهما بدنة ؟ أم يجب على الزوج فقط بدنة عن نفسه ؟ أم عليه بدنة عنه وعنها ؟ فيه ثلاثة أقوال ، كالصوم . وقطع قاطعون بإلزامها البدنة . وإذا خرجت الزوجة للقضاء [ ص: 141 ] ، فهل يلزم الزوج ما زاد من النفقة بسبب السفر ؟ وجهان . أصحهما : يلزمه . وإذا خرجا للقضاء معا ، استحب أن يفترقا من حين الإحرام . فإذا وصلا إلى الموضع الذي أصابها فيه ، فقولان . قال في الجديد : لا تجب المفارقة . وقال في القديم : تجب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكرنا في كون القضاء على الفور وجهين . قال القفال : هما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان ؛ لأن الكفارة في وضع الشرع ، على التراخي كالحج . والكفارة بلا عدوان ، على التراخي قطعا . وأجرى الإمام الخلاف في المتعدي بترك الصوم . وقد سبق في كتاب الصوم انقسام قضاء الصوم إلى الفور والتراخي . قال الإمام : والمتعدي بترك الصلاة لزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف . وذكر غيره وجهين . أصحهما : هذا . والثاني : أنها على التراخي . وربما رجحه العراقيون . وأما غير المتعدي ، فالمذهب : أنه لا يلزمه القضاء على الفور ، وبهذا قطع الأصحاب . وفي " التهذيب " وجه : أنه يلزمه على الفور ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليصلها إذا ذكرها " .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يجوز للمفرد بأحد النسكين إذا أفسده أن يقضيه مع الآخر قارنا ، وأن يتمتع . ويجوز للمتمتع والقارن القضاء على سبيل الإفراد . ولا يسقط دم القران بالقضاء على سبيل الإفراد . وإذا جامع القارن قبل التحلل الأول ، فسد نسكاه ، وعليه بدنة واحدة ، لاتحاد الإحرام ، ويلزمه دم القران مع البدنة على المذهب [ ص: 142 ] ، وبه قطع الجمهور . وقيل : وجهان . ثم إذا اشتغل بقضائهما ، فإن قرن أو تمتع ، فعليه دم آخر ، وإلا فقد أشار الشيخ أبو علي إلى خلاف فيه ، ومال إلى أنه لا يجب شيء آخر .

                                                                                                                                                                        قلت : المذهب : وجوب دم آخر إذا أفرد في القضاء ، وبه قطع الجمهور . وممن قطع به الشيخ أبو حامد ، والماوردي والمحاملي ، والقاضي أبو الطيب في كتابيه ، والمتولي ، وخلائق آخرون ، وهو مراد الإمام الرافعي بقوله في أوائل هذا الفرع : لا يسقط دم القران ، لكنه ناقضه بهذه الحكاية عن أبي علي . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وإن جامع بعد التحلل الأول ، لم يسقط واحد من نسكيه ، سواء كان أتى بأعمال العمرة ، أم لا . وفيه وجه قاله الأودني : أنه إذا لم يأت بشيء من أعمال العمرة ، كسدت عمرته . وهذا شاذ ضعيف ؛ لأن العمرة في القران تتبع الحج . ولهذا يحل للقارن معظم محظورات الإحرام بعد التحلل الأول وإن لم يأت بأعمال العمرة ولو قدم القارن مكة ، وطاف وسعى ، ثم جامع بطل نسكاه ، وإن كان بعد أعمال العمرة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا فات القارن الحج لفوات الوقوف ، فهل يحكم بفوات عمرته ؟ قولان . أظهرهما : نعم ، تبعا للحج ، كما تفسد بفساده . والثاني : لا لأنه يتحلل بعملها . فإن قلنا بفواتها ، فعليه دم واحد للفوات ، ولا يسقط دم القران . وإذا قضاهما ، فالحكم على ما ذكرناه في قضائهما عند الإفساد . إن قرن أو تمتع فعليه الدم ، وإلا فعلى الخلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 143 ] فرع

                                                                                                                                                                        جميع ما ذكرناه هو في جماع العامد العالم بالتحريم .

                                                                                                                                                                        فأما إذا جامع ناسيا ، أو جاهلا بالتحريم ، فقولان . الأظهر : الجديد : لا يفسد . والقديم : يفسد . ولو أكره على الوطء ، فقيل : وجهان ، بناء على الناسي ، وقيل : يفسد قطعا بناء على أن إكراه الرجل على الوطء ممتنع . ولو أحرم عاقلا ثم جن فجامع ، فيه القولان في الناسي .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أحرم مجامعا . فأوجه . أحدها : ينعقد صحيحا . فإن نزع في الحال ، فذاك وإلا فسد نسكه ، وعليه البدنة ، والمضي في فاسده والقضاء . والثاني : ينعقد فاسدا وعليه القضاء والمضي في فاسده سواء مكث ، أو نزع . ولا تجب البدنة إن نزع في الحال وإن مكث وجبت شاة في قول ، وبدنة في قول كما سبق في نظائره . والثالث : لا ينعقد أصلا كما لا تنعقد الصلاة مع الحدث .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثالث : أصحها . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية