الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في صفتها

                                                                                                                                                                        وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                        إحداها : المريضة ، إن كان مرضها يسيرا ، لم يمنع الإجزاء وإن كان بينا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم ، منع الإجزاء ، وهذا هو المذهب . وحكى ابن كج قولا : أن المرض لا يمنع بحال ، وأن المرض المذكور في الحديث المراد به الجرب . وحكي وجه : أن المرض يمنع الإجزاء وإن كان يسيرا ، وحكاه في " الحاوي " قولا قديما . وحكي وجه في الهيام خاصة ، أنه يمنع الإجزاء ، وهو من أمراض الماشية ، وهو أن يشتد عطشها ، فلا تروى من الماء .

                                                                                                                                                                        قلت : هو - بضم الهاء - قال أهل اللغة : هو داء يأخذها ، فتهيم في الأرض لا ترعى . وناقة هيماء بفتح الهاء والمد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية : الجرب ، يمنع الإجزاء ، كثيره وقليله ، كذا قاله الجمهور ، ونص عليه في الجديد ؛ لأنه يفسد اللحم والودك . وفي وجه : لا يمنع إلا كثيره ، كالمرض ، واختاره الإمام والغزالي . والصحيح : الأول ، وسواء في المرض والجرب ، ما يرجى زواله ، وما لا يرجى .

                                                                                                                                                                        الثالثة : العرجاء ، إن اشتد عرجها ، بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب [ ص: 195 ] وتتخلف عن القطيع ، لم تجزئ . وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية ، لم يضر . فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف بثلاث لم تجزئ . ولو أضجعها ليضحي بها وهي سليمة ، فاضطربت وانكسرت رجلها ، أو عرجت تحت السكين ، لم تجزئه على الأصح ، لأنها عرجاء عند الذبح ، فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة فبادر إلى التضحية بها ، فإنها لا تجزئ .

                                                                                                                                                                        الرابعة : لا تجزئ العمياء ، ولا العوراء التي ذهبت حدقتها ،

                                                                                                                                                                        [ وكذا إن بقيت حدقتها ] على الأصح . وتجزئ العشواء على الأصح ، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل ، لأنها تبصر وقت الرعي . وأما العمش وضعف بصر العينين جميعا ، فقطع الجمهور بأنه لا يمنع . وقال الروياني : إن غطى الناظر بياض ، أذهب أكثره منع وإن أذهب أقله ، لم يمنع على الصحيح .

                                                                                                                                                                        الخامسة : العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها ، لا تجزئ ، وإن كان بها بعض الهزال ولم يذهب مخها ،

                                                                                                                                                                        [ أجزأت ] ، كذا أطلقه كثيرون . وقال في " الحاوي " : إن كان خلقيا ، فالحكم كذلك ، وإن كان لمرض منع ؛ لأنه داء . وقال إمام الحرمين : كما لا يعتبر السمن البالغ للإجزاء ، لا يعتبر العجف البالغ للمنع . وأقرب معتبر أن يقال : إن كان لا ترغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة اللحم في سني الرخاء ، منعت .

                                                                                                                                                                        السادسة : ورد النهي عن الثولاء ، وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا ترعى إلا قليلا فتهزل .

                                                                                                                                                                        السابعة : يجزئ الفحل وإن كثر نزوانه ، والأنثى وإن كثرت ولادتها ، وإن لم يطلب لحمها ، إلا إذا انتهيا إلى العجف البين .

                                                                                                                                                                        الثامنة : لا تجزئ مقطوعة الأذن ، فإن قطع بعضها ، نظر ، فإن لم يبن منها شيء ، [ ص: 196 ] بل شق طرفها وبقي متدليا ، لم يمنع على الأصح ، وقال القفال : يمنع . وإن أبين ، فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الأذن ، منع قطعا ، وإن كان يسيرا ، منع أيضا على الأصح ، لفوات جزء مأكول . وقال الإمام : وأقرب ضبط بين الكثير واليسير : أنه إن لاح النقص من البعد ، فكثير ، وإلا فقليل .

                                                                                                                                                                        التاسعة : لا يمنع الكي في الأذن وغيرها على المذهب ، وقيل : وجهان ، لتصلب الموضع ، وتجزئ صغيرة الأذن ، ولا تجزئ التي لم يخلق لها أذن .

                                                                                                                                                                        العاشرة : لا تجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالإضافة إليه ، ولا يمنع قطع الفلقة اليسيرة من عضو كبير ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها ، لم تجزئ على المذهب ، وتجزئ التي خلقت بلا ضرع أو بلا ألية على الأصح ، كما يجزئ الذكر من المعز ، بخلاف التي لم يخلق لها أذن ؛ لأن الأذن عضو لازم غالبا . والذنب كالألية ، وقطع بعض الألية أو الضرع كقطع كله ، ولا تجوز مقطوعة بعض اللسان .

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : يجزئ الموجوء والخصي ، كذا قطع به الأصحاب ، وهو الصواب . وشذ ابن كج ، فحكى في الخصي قولين ، وجعل المنع : الجديد .

                                                                                                                                                                        الثانية عشرة : تجزئ التي لا قرن لها والتي انكسر قرنها ، سواء دمي قرنها بالانكسار ، أم لا . قال القفال : إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم ، فيكون كالجرب وغيره ، وذات القرن أفضل .

                                                                                                                                                                        الثالثة عشرة : تجزئ التي ذهب بعض أسنانها ، فإن انكسر أو تناثر جميع أسنانها ، فقد أطلق صاحب " التهذيب " وجماعة : أنها لا تجزئ ، وقال الإمام : قال المحققون : تجزئ . وقيل : لا تجزئ . وقال بعضهم : إن كان ذلك لمرض أو كان يؤثر في الاعتلاف وينقص اللحم ، منع ، وإلا ، فلا ، وهذا حسن ، ولكنه يؤثر بلا شك ، فيرجع الكلام إلى المنع المطلق .

                                                                                                                                                                        [ ص: 197 ] قلت : الأصح : المنع . وفي الحديث نهي عن المشيعة . قال في " البيان " : هي المتأخرة عن الغنم ، فإن كان ذلك لهزال أو علة ، منع ، لأنها عجفاء ، وإن كان عادة وكسلا ، لم يمنع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في صفة الكمال

                                                                                                                                                                        فيه مسائل

                                                                                                                                                                        إحداها : يستحب للتضحية الأسمن الأكمل ، حتى أن التضحية بشاة سمينة ، أفضل من شاتين دونها . قال الشافعي رحمه الله تعالى : استكثار القيمة في الأضحية أحب من استكثار العدد ، وفي العتق عكسه ؛ لأن المقصود هنا اللحم ، والسمين أكثر ، وأطيب ، والمقصود في العتق التخليص من الرق ، وتخليص عدد أولى من واحد وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم ، إلا أن يكون لحما رديئا .

                                                                                                                                                                        الثانية : أفضلها البدنة ، ثم البقرة ، ثم الضأن ، ثم المعز . وسبع من الغنم ، أفضل من بدنة أو بقرة على الأصح . وقيل : البدنة أو البقرة أفضل ، لكثرة اللحم ، والتضحية بشاة أفضل من المشاركة في بدنة .

                                                                                                                                                                        الثالثة : أفضلها البيضاء ، ثم العفراء ، وهي التي لا يصفو بياضها ، ثم السوداء .

                                                                                                                                                                        الرابعة : التضحية بالذكر أفضل من الأنثى على المذهب ، وهو نصه في البويطي . وحكي

                                                                                                                                                                        [ عن ] نص الشافعي رحمه الله ، أن الأنثى أفضل ، فقيل : ليس مراده تفضيل الأنثى في الأضحية ، وإنما أراد تفضيلها في جزاء الصيد ، إذا قومت لإخراج الطعام ، فالأنثى أكثر قيمة . وقيل : المراد أن أنثى لم تلد أفضل من الذكر إذا كثر نزوانه ، فإن فرضنا ذكرا لم ينز ، وأنثى لم تلد ، فهو أفضل منها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 198 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية