الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الفصل الثاني : في الأكل من الأضحية والهدي المتطوع بهما . وليس له أن يتلف منهما شيئا ، بل يأكل ويطعم ، ولا يجوز بيع شيء منهما ، ولا أن يعطي الجزار شيئا منهما أجرة له ، بل مؤنة الذبح على المضحي والمهدي كمؤنة الحصاد . ويجوز أن يعطيه منهما شيئا لفقره ، أو يطعمه إن كان غنيا . ولا يجوز تمليك الأغنياء منهما ، وإن جاز إطعامهم . ويجوز تمليك الفقراء منهما ، ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره . بل لو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء ، قال الإمام : الذي ينقدح عندي إذا أوجبنا التصدق بشيء : أنه لا بد من التمليك كما في الكفارات ، وكذا صرح به الروياني فقال : لا يجوز أن يدعو الفقراء ليأكلوه مطبوخا ؛ لأن حقهم في تملكه فإن دفع مطبوخا ، لم يجز ، بل يفرقه نيئا ، فإن المطبوخ ، كالخبز في الفطرة . وهل يشترط التصدق بشيء منهما ، أم يجوز أكل الجميع ؟ وجهان . أحدهما : يجوز أكل الجميع ، قاله ابن سريج ، وابن القاص ، والاصطخري ، وابن الوكيل ، وحكاه ابن القاص عن نصه . قالوا : ويحصل [ ص: 223 ] الثواب بإراقة الدم بنية القربة ، وأصحهما : يجب التصدق بقدر ينطلق عليه الاسم ؛ لأن المقصود إرفاق المساكين . فعلى هذا ، إن أكل الجميع لزمه ضمان ما ينطلق عليه الاسم ، وفي قول ، أو وجه : يضمن القدر الذي يستحب أن لا ينقص في التصدق عنه ، وسيأتي فيه قولان ، هل هو النصف ، أم الثلث ؟ وحكى ابن كج والماوردي وجها : أنه يضمن الجميع بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها ؛ لأنه بأكله الكل ، عدل عن حكم الضحية ، فكأنه أتلفها . وينسب هذا إلى أبي إسحاق ، وابن أبي هريرة . وعلى هذا ، يذبح البدل في وقت التضحية . فإن أخره أيام التشريق ، ففي إجزائه وجهان . وفي جواز الأكل من البدل وجهان . وهذا الوجه المذكور عن ابن كج ، وما تفرع عليه ، شاذ ضعيف . والمعروف ، ما سبق من الخلاف . ثم ما يضمنه على الخلاف السابق ، لا يتصدق به ورقا . وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية ، أم يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته ؟ وجهان : وعلى الوجهين : يجوز تأخير الذبح والتفريق عن أيام التشريق ؛ لأن الشقص ليس بأضحية ، فلا يعتبر فيه وقتها ، ولا يجوز أن يأكل منه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الأفضل والأحسن في هدي التطوع وأضحيته ، التصدق بالجميع إلا لقمة ، أو لقما يتبرك بأكلها ، فإنها مسنونة . وحكى في " الحاوي " عن أبي الطيب بن سلمة : أنه لا يجوز التصدق بالجميع ، بل يجب أكل شيء . وفي القدر الذي يستحب أن لا ينقص التصدق عنه قولان : القديم : يأكل النصف ، ويتصدق بالنصف ، واختلفوا في التعيين عن الجديد . فنقل جماعة عنه : أنه يأكل الثلث ، ويتصدق بالثلثين . ونقل آخرون عنه : أنه يأكل الثلث ، ويهدي إلى الأغنياء الثلث ، ويتصدق بالثلث . وكذا حكاه الشيخ أبو حامد ، ثم قال : ولو تصدق بالثلثين كان أحب . ويشبه أن [ ص: 224 ] لا يكون اختلاف في الحقيقة ، لكن من اقتصر على التصدق بالثلثين ، ذكر الأفضل ، أو توسع فعد الهدية صدقة . والمفهوم من كلام الأصحاب : أن الهدية لا تغني عن التصدق بشيء إذا أوجبناه ، وأنها لا تحسب من القدر الذي يستحب التصدق به ، ويجوز صرف القدر الذي لا بد منه إلى مسكين واحد ، بخلاف الزكاة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يجوز أن يدخر من لحم الأضحية ، وكان ادخارها فوق ثلاثة أيام قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أذن فيه . قال الجمهور : كان نهي تحريم . وقال أبو علي الطبري : يحتمل التنزيه . وذكروا على الأول وجهين ، في أن النهي كان عاما ، ثم نسخ ، أم كان مخصوصا بحالة الضيق الواقع في تلك السنة ، فلما زالت انتهى التحريم ؟ ووجهين على الثاني : في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا وبلادنا ، هل يحكم به ؟ والصواب المعروف : أنه لا يحرم اليوم بحال . وإذا أراد الادخار ، فالمستحب أن يكون من نصيب الأكل ، لا من نصيب الصدقة والهدية . وأما قول الغزالي في الوجيز : يتصدق بالثلث ، ويأكل الثلث ، ويدخر الثلث ، فبعيد منكر نقلا ومعنى ، فإنه لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر ، والمعروف الصواب : ما قدمناه .

                                                                                                                                                                        قلت : قال الشافعي رحمه الله في " المبسوط " : أحب أن لا يتجاوز بالأكل والادخار الثلث ، أن يهدي الثلث ، ويتصدق بالثلث ، هذا نصه بحروفه ، وقد نقله أيضا القاضي أبو حامد في جامعه ، ولم يذكر غيره . وهذا تصريح بالصواب ، ورد لما قاله الغزالي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية