الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        النوع الثالث : إتيان المساجد . فإذا قال : لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام ، أو آتيه ، أو أمشي إلى البيت الحرام ، لزمه إتيانه على المذهب . وقيل : في لزومه قولان . ولو قال : أمشي إلى بيت الله ، أو آتيه ، ولم يقل : الحرام ، فوجهان ، أو قولان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : يحمل على البيت الحرام . وأصحهما : لا ينعقد نذره ، إلا أن ينوي البيت الحرام . ولو قال : أمشي إلى الحرام ، أو المسجد الحرام ، أو إلى مكة ، أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم ، كالصفا ، والمروة ، ومسجد الخيف ، ومنى ، ومزدلفة ، ومقام إبراهيم ، وقبة زمزم ، وغيرها ، فهو كما لو قال : إلى بيت الله الحرام . حتى لو قال : آتي دار أبي جهل ، أو دار الخيزران ، كان الحكم كذلك ؛ لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره . ولو نذر أن يأتي عرفات ، فإن أراد التزام الحج وعبر عنه بشهود عرفة ، أو نوى أن يأتيها محرما ، انعقد نذره بالحج . فإن لم ينو ذلك ، لم ينعقد نذره ؛ لأن عرفات من الحل ، فهو كبلد آخر . وعن ابن أبي هريرة : أنه إن نذر إتيان عرفات يوم عرفات ، لزمه أن يأتيها حاجا . وقيد في التتمة هذا الوجه بما إذا قال ذلك يوم عرفة بعد الزوال . وعن القاضي حسين : الاكتفاء بأن يحصل له شهودها يوم عرفة ، وربما قال بهذا الجواب على الإطلاق . والصحيح ما قدمناه . ولو قال : آتي مر الظهران ، أو بقعة أخرى قريبا من الحرم ، لم يلزمه شيء قطعا ، وسواء في لزوم الإتيان ، لفظ المشي ، والإتيان ، والانتقال ، والذهاب ، والمضي ، والمصير ، والمسير ، ونحوها . ولو نذر أن يمس بثوبه حطيم الكعبة ، فهو كما لو نوى إتيانها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 325 ] ولو نذر أن يأتي مسجد المدينة ، أو المسجد الأقصى ، ففي لزوم إتيانهما قولان . قال في " البويطي " : يلزم ، وقال في " الأم " : لا يلزم ، ويلغو النذر . وهذا هو الأظهر عند العراقيين والروياني وغيرهم .

                                                                                                                                                                        التفريع : إن قلنا بالمذهب : إنه يلزم إتيان المسجد الحرام بالتزامه ، قال الصيدلاني وغيره : إن حملنا النذر على الواجب شرعا ، لزمه حج أو عمرة ، وهذا نص الشافعي - رحمه الله - في المسألة ، وهو المذهب . وإن قلنا : لا يحمل على الواجب ، بني على أصل آخر ، وهو أن دخول مكة هل يقتضي الإحرام بحج أو عمرة ، أم لا ؟ إن قلنا : نعم ، فإذا أتاه ، لزمه حج أو عمرة . وإن قلنا : لا ، فهو كمسجد المدينة والأقصى ، ففيه القولان في أنه هل يلزم إتيانه ؟ وإذا لزم ، فتفريعه كتفريع المسجدين . أما إذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والأقصى ، فهل يلزمه مع الإتيان شيء آخر ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : لا ، إذ لم يلتزمه . وأصحهما : نعم ، إذ الإتيان المجرد ليس بقربة . فعلى هذا فيما يلزمه أوجه :

                                                                                                                                                                        أحدها : يتعين أن يصلي في المسجد الذي أتاه . قال الإمام : الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان ، بل يكفيه ركعة قولا واحدا . وذكر ابن الصباغ والأكثرون : أنه يصلي ركعتين . قال ابن القطان : وهل يكفي أن يصلي فريضة ، أم لا بد من صلاة زائدة ؟ وجهان بناء على وجهين فيمن نذر أن يعتكف شهرا بصوم ، فهل يكفيه أن يعتكف في رمضان ؟

                                                                                                                                                                        والوجه الثاني : يتعين أنه يعتكف فيه ولو ساعة ؛ لأن الاعتكاف أخص القربات بالمسجد .

                                                                                                                                                                        والثالث وهو الأصح : يتخير بينهما ، وبه قطع في " التهذيب " . وقال الشيخ أبو علي : يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتوقف فيه الإمام من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه . قال : وقياسه أنه لو تصدق في المسجد ، أو صام يوما ، كفاه . والظاهر : الاكتفاء بالزيارة . وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة المسجدين ، وأوجبنا ضم قربة إلى الإتيان ، ففي تلك القربة أوجه :

                                                                                                                                                                        أحدها : الصلاة . والثاني : الحج أو العمرة . والثالث : [ ص: 326 ] يتخير . قال الإمام : ولو قيل : يكفي الطواف ، لم يبعد . ثم مهما قال : أمشي إلى بيت الله الحرام ، لم يكن له الركوب على الأصح ، بل يلزمه المشي كما سبق فيما إذا قال : أحج ماشيا . والوجه الآخر : يمشي من الميقات . وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين : أنه لا خلاف بين الأصحاب أنه يمشي من دويرة أهله . لكن يحرم من دويرة أهله ، أم من الميقات ؟ وجهان . قال أبو إسحاق : من دويرة أهله . وقال صاحب الإفصاح : من الميقات ، وهو الأصح . ولو قال : أمشي إلى مسجد المدينة ، أو الأقصى ، وأوجبنا الإتيان ، ففي وجوب المشي وجهان . أصحهما : الوجوب . ولو كان لفظ الناذر الإتيان ، أو الذهاب ، أو غيرهما مما سوى المشي ، فله الركوب بلا خلاف . وأما إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة ، فلا ينعقد نذره ، إذ ليس في قصدها قربة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد . . . الحديث . قال الإمام : كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة ، وربما كان يقول : يحرم . قال : والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة ، وبه قال الشيخ أبو علي ، ومقصود الحديث ، تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة .

                                                                                                                                                                        واعلم أنه سبق في الاعتكاف ، أن من عين بنذره مسجد المدينة ، أو الأقصى للاعتكاف ، تعين على الأظهر . والفرق : أن الاعتكاف عبادة في نفسه ، وهو مخصوص بالمسجد ، فإذا كان للمسجد فضل ، فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة ، والإتيان بخلافه ، ويوضحه : أنه لا خلاف في أنه لو نذر إتيان سائر المساجد ، لم يلزمه ، وفي مثله في الاعتكاف خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 327 ] فرع :

                                                                                                                                                                        إذا نذر الصلاة في موضع معين ، لزمه الصلاة لا محالة ، ثم إن عين المسجد الحرام ، تعين للصلاة الملتزمة . وإن عين مسجد المدينة أو الأقصى ، فطريقان . قال الأكثرون : في تعيينه القولان في لزوم الإتيان . وقطع المراوزة بالتعيين ، والتعيين هنا أرجح كالاعتكاف ، وإن عين سائر المساجد والمواضع ، لم يتعين . وإذا عين مسجد المدينة أو الأقصى للصلاة ، وقلنا بالتعيين ، فصلى في المسجد الحرام ، خرج عن نذره على الأصح ، بخلاف العكس . وهل تقوم الصلاة في أحدهما مقام الصلاة في الآخر ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : فيه وجه ثالث : أنه يقوم مسجد المدينة مقام الأقصى ، دون عكسه .

                                                                                                                                                                        وهذا هو الأصح ، ونص عليه في " البويطي " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وذكر الإمام ، أنه لو قال : أصلي في مسجد المدينة ، فصلى في غيره ألف صلاة ، لم يخرج عن نذره ، كما لو نذر ألف صلاة ، لا يخرج عن نذره بصلاة واحدة في مسجد المدينة ، وأن شيخه كان يقول : لو نذر صلاة في الكعبة ، فصلى في أطراف المسجد ، خرج عن نذره .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        قد سبق أن المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، أنه يجب قصده بالحج أو العمرة . فلو قال في نذره : أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : ينعقد نذره ويلغو قوله : بلا حج ولا عمرة . والثاني : لا ينعقد ، [ ص: 328 ] ثم إذا أتاه ، فإن أوجبنا إحراما لدخول مكة ، لزمه حج أو عمرة . وإن قلنا : لا ، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والأقصى .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : ينعقد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو قال : أصلي الفرائض في المسجد . قال في الوسيط : يلزمه إذا قلنا : صفات الفرائض تفرد بالالتزام .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        قال القاضي ابن كج : إذا نذر أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا . ولو نذر أن يزور قبر غيره ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        قال في " التتمة " : لو قال : أمشي ، ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا ، انعقد النذر إلى ما نوى ، وإن نوى إلى بيت الله الحرام ، جعل ما نواه كأنه تلفظ به .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية