الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل الثالث : بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء ويبيع كل شيء في سوقه ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم وينفق عليه بالمعروف إلى أن يخلو من قسمه بين غرمائه ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد ، ثم بالحيوان ، ثم بالأثاث ، ثم بالعقار ويعطي المنادي أجرته من المال ويبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش ، أو ثمن الجاني ، ثم بمن له رهن فيختص بثمنه ، فإن فضل له فضل ضرب به مع الغرماء ، وإن فضل منه فضل رد على المال ، ثم بمن له عين مال يأخذها ، ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم ، فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل ، وعنه : يحل ويشاركهم ، ومن مات ، وعليه دين مؤجل لم يحل إذا وثق الورثة ، وعنه : يحل وإن ظهر غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه وإن بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها على روايتين ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم ، فإذا فك عنه الحجر فلزمته ديون وحجر عليه ، شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني ، فإن كان للمفلس حق له به شاهد واحد فأبى أن يحلف معه لم يكن للغرماء أن يحلفوا .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( الثالث : بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه ) على الغرماء ، لأنه عليه السلام لما حجر على معاذ باع ماله في دينه وقسم ثمنه بين غرمائه ولفعل عمر ، ولأنه محجور عليه يحتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير رضاه كالسفيه ، ولا يباع إلا بثمن مثله المستقر في وقته ، أو أكثر ، لكن إن كان ماله من جنس الدين قسمه على الغرماء من غير بيع ، صرح به في " الشرح " ، و " الفروع " ( وينبغي ) أي : يستحب ( أن يحضره ) أي : المفلس وقت البيع لفوائد منها : أن يحضر ثمن متاعه ويضبطه ومنها أنه أعرف بالجيد من متاعه ، فإذا حضر تكلم عليه ومنها : أنه تكثر فيه الرغبة ومنها أنه أطيب لنفسه وأسكن لقلبه ، ووكيله كهو . قاله في " البلغة " .

                                                                                                                          [ ص: 323 ] ( ويحضر الغرماء ) ، لأنه لهم وربما رغبوا في شيء فزادوا في ثمنه وأطيب لقلوبهم ، وأبعد للتهمة قال في " الشرح " وغيره : وربما يجد أحدهم عين ماله فيأخذها .

                                                                                                                          ( ويبيع كل شيء في سوقه ) ، لأنه أحوط وأكثر لطلابه ، فلو باعه في غير سوقه بثمن مثله صح ، لأن الغرض تحصيل الثمن كالوكالة ويبيع بنقد البلد ، لأنه أصلح ، فإن كان فيه نقود باع بأغلبها ، فإن تساوت باع بجنس الدين ( و ) يجب أن ( يترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم ) ، لأن ذلك مما لا غنى له عنه ، فلم يبع في دينه ككتابه وقوته ، لكن لو كان له داران يستغني بإحداهما ، أو كانت واسعة تفضل عن مسكن مثله بيع ، وكذا الخادم إذا كان نفيسا ( وينفق عليه بالمعروف إلى أن يخلو من قسمه بين غرمائه ) لقوله عليه السلام : ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول ، لأن ملكه باق عليه قبل القسمة ، وذكر في " المغني " ، و " الشرح " أنه ينفق عليه من ماله إن لم يكن له ، ولم يتعرض المؤلف لنفقة عياله وكسوتهم ، ولا خلاف في وجوب نفقة زوجته وتكون دينا عليه وكسوتها ، وكذا أولاده وأقاربه ، والواجب فيهما أدنى ما ينفق على مثله ويكسى وتترك له آلة حرفة ، أو ما يتجر به إن عدمها ، نص عليه ، وفي " الموجز " ، و " التبصرة " وفرس يحتاج إلى ركوبها . ونقل [ ص: 324 ] عبد الله : يباع الكل إلا المسكن ، وما يواريه من ثياب وخادما يحتاجه ( ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد ) كالفاكهة ونحوها ، لأن بقاءه يتلفه بيقين ( ثم بالحيوان ) ، لأنه معرض للإتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ( ثم بالأثاث ) ، لأنه يخاف عليه وتناله الأيدي ( ثم بالعقار ) ، لأنه لا يخاف تلفه بخلاف غيره وبقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه ، والعهدة على المفلس فقط إذا ظهر مستحقا . قاله في " الشرح " ( ويعطي المنادي أجرته من المال ) ، لأن البيع حق على المفلس لكونه طريقا إلى وفاء دينه ، وهذا إذا لم يوجد متبرع ، وقيل : أجرته من بيت المال مع إمكانه ، لأنه من المصالح ، فإن لم يمكن فمن المال ، وكذا الخلاف فيمن يحفظ المتاع ويحمله ونحوهما ، وقيل : لا ينادى على عقار بل يعلم به أهل البلد ، وقاله القاضي وجماعة . ويشترط فيه أن يكون ثقة ، فإن اتفق الكل على ثقة أمضاه الحاكم ، وإن كان غير ثقة رده بخلاف المرهون إذا اتفق الراهن والمرتهن على غير ثقة لم يكن له رده ، والفرق أن للحاكم هنا نظرا ، فإنه قد يظهر غريم آخر ، فإن اختلف المفلس في ثقة ، والغرماء في آخر قدم المتطوع منهما ، وإلا قدم أوثقهما وأعرفهما . قاله ابن المنجا ، وفي " الفروع " قدم من شاء منهما ، والمراد مع التساوي ( ويبدأ بالمجني عليه ) أي : إذا كان عبده الجاني ، لأن الحق متعلق بعينه يفوت بفواتها بخلاف بقية الغرماء ، فلو كان هو الجاني ، فالمجني عليه أسوة الغرماء ، لأن حقه متعلق بالذمة ( فيدفع إليه الأقل من الأرش ، أو ثمن الجاني ) ، لأن الأقل إن كان الأرش فهو لا يستحق إلا أرش الجناية ، وإن كان ثمن الجاني فهو لا يستحق غيره ، لأن حقه متعلق بعينه ، فعلى هذا إذا فضل شيء من ثمن الجاني عن أرش الجناية قسم على بقية الغرماء ( ثم بمن له رهن ) كذا أطلقه في " المحرر " ، و " الوجيز " [ ص: 325 ] والمذهب أنه مقيد باللزوم ( فيختص بثمنه ) أي : يباع سواء كان بقدر دينه أو لا ، ويختص المرتهن بثمنه بشرطه ، وسواء كان المفلس حيا ، أو ميتا ، لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن بخلاف الغرماء ، وعنه : إذا مات الراهن ، أو أفلس فالمرتهن أحق به ، ولم يعتبر وجود قبضه بعد موته أو قبله ، وفي " الرعاية " يختص بثمن الرهن على الأصح .

                                                                                                                          ( فإن فضل له فضل ضرب به مع الغرماء ) ، لأنه ساواهم في ذلك ( وإن فضل منه ) أي : من الرهن ( فضل رد على المال ) ، لأنه انفك من الرهن بالوفاء فصار كسائر مال المفلس .

                                                                                                                          أصل : لم يذكر المؤلف حكم مستأجر العين حيث أفلس المؤجر ، وهو أحق بها ، لأن حقه متعلق بالعين ، والمنفعة وهي مملوكة له في هذه المدة بخلاف ما لو استأجرها في الذمة ، فإنه أسوة الغرماء لعدم تعلق حقه بالعين ( ثم بمن له عين مال يأخذها ) بالشروط السابقة ( ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء ) لتساوي حقوقهم في تعلقها بذمة المفلس ( على قدر ديونهم ) ، لأن فيه تسوية بينهم ومراعاة لكمية حقوقهم ، فلو قضى الحاكم ، أو المفلس بعضهم لم يصح ، لأنهم شركاؤه ، فلم يجز اختصاصه دونهم ، ولا يلزمهم بيان أن لا غريم سواهم بخلاف الورثة ، ذكره في " الترغيب " ، و " الفصول " ، وغيرهما لئلا يأخذ أحدهم ما لا حق له فيه ( فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل ) هذا هو المذهب المعروف وحكاه القاضي رواية واحدة ، لأن الأجل حق للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، ولأنه لا يوجب حلول ما له ، فلا يوجب حلول ما عليه كالإغماء ( وعنه : [ ص: 326 ] يحل ) حكاها أبو الخطاب دفعا للضرر عن ربه ، ولأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت ( ويشاركهم ) كبقية الديون الحالة ، وعنه : إن وثق لم يحل لزوال الضرر والأجل . نقلها ابن منصور ، والأول أصح وقياسهم على الموت مردود بالمنع ، ثم بتقدير تسليمه يفرق ، فإن ذمة الميت خربت ، بخلاف المفلس ، فعلى هذا لا يوقف له شيء ، ولا يرجع على الغرماء إذا حل . نعم إذا حل قبل القسمة شاركهم ، وإن كان بعد قسمة البعض شاركهم في الباقي بجميع دينه ويضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم .

                                                                                                                          ( ومن مات ، وعليه دين مؤجل لم يحل ) هذا هو المختار لعامة الأصحاب ( إذا وثق الورثة ) بأقل الأمرين من قيمة التركة ، أو الدين بكفيل مليء ، أو رهن ، لأن الأجل حق للميت فورث عنه كسائر حقوقه ، وظاهره أنه يحل إذا لم يوثقوا على الأشهر ، جزم به الشيخان لغلبة الضرر ( وعنه : يحل ) ، اختاره ابن أبي موسى ، لأنه إما أن يبقى في ذمة الميت ، أو الورثة ، أو متعلق بالمال ، فالأول منتف لخرابها وتعذر مطالبته ، والثاني كذلك ، لأنهم لم يلتزموا الدين ، ولا رضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة ، والثالث ممنوع ، لأنه لا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله ، لأنه ضرر على الميت ، لأن ذمته مرتهنة بدينه ، وعلى صاحب المال لتأخر حقه ، وقد يسقط لتلف العين ، وعلى الورثة ، لأنهم لا ينتفعون بالأعيان ، ولا يتصرفون فيها ، وظاهره ولو قبله ربه ، وعنه : لا يحل مطلقا ، اختاره أبو محمد الجوزي كدينه .

                                                                                                                          مسائل : الأولى : إذا ورثه بيت المال فوجهان أحدهما : يحل لعدم [ ص: 327 ] وارث معين ولهذا للإمام أن يقطع الأراضي ، وإن كانت لجميع المسلمين ، والثاني : ينتقل إلى بيت المال ويضمن الإمام للغرماء .

                                                                                                                          الثانية : ظاهر كلامهم أنه إذا جن ، وعليه دين مؤجل أنه لا يحل ، وفي " التلخيص " كما سبق ، وكذا في حله بجنون .

                                                                                                                          الثالثة : إذا مات ، وعليه دين حال ودين مؤجل ، وقلنا : لا يحل ، وماله بقدر الحال فهل يترك له ما يخصه ليأخذه ، أو يوفى الحال ، ويرجع على ورثته صاحب المؤجل بحصته إذا حل ، أو لا يرجع ؛ فيه أوجه .

                                                                                                                          الرابعة : إذا مات ، وعليه دين لم يمنع نقل التركة إلى الورثة ، فإن تصرفوا فيها ، صح كتصرف السيد في الجاني ، فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم ، وعنه : يمنع ، وفي " الانتصار " الصحيح أنه في ذمة ميت ، والتركة رهن ، وفي " الترغيب " الدين ، وإن قل يمنعه من التصرف نظرا له ، فعلى ذلك لا يصح تصرف كل من الغرماء ، والورثة إلا بإذن الآخر ، وإن ضمنه ضامن وحل على أحدهما : لم يحل على غيره .

                                                                                                                          ( وإن ظهر غريم بعد قسم ماله ) لم ينقض خلافا لـ " الكافي " ( رجع على الغرماء بقسطه ) ، لأنه لو كان حاضرا شاركهم ، فكذا إذا ظهر ، وفي " المغني " هي قسمة بان الخطأ فيها كقسمه أرضا ، أو ميراثا ، ثم بان شريك ، أو وارث قال الأزجي : فلو كان له ألف اقتسمها غريماه نصفين ، ثم ظهر ثالث دينه كدين أحدهما رجع على كل واحد بثلث ما قبضه ، وإن كان أحدهما قد أتلف [ ص: 328 ] ما قبضه فظاهر المذهب أن الثالث يأخذ من الآخر ثلث ما قبضه زيادة .

                                                                                                                          فرع : ذكر المؤلف في فتاويه : لو وصل مال لغائب فأقام رجل بينة أن له عليه دينا وأقام آخر بينة إن طالبا جميعا اشتركا ، وإن طالب أحدهما اختص به لاختصاصه بما يوجب التسليم وعدم تعلق الدين بماله ، قال في " الفروع " : ومراده ، ولم يطالب أصلا ، وإلا شاركه ما لم يقبضه .

                                                                                                                          ( وإن بقيت على المفلس بقية ) من الديون ( وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها ؛ على روايتين ) الأشهر أنه يجبر ، لأنه عليه السلام باع سرقا في دينه بخمسة أبعرة . رواه الدارقطني من رواية خالد بن مسلم الزنجي ، وفيه ضعف ، والحر لا يباع ، فعلم أنه باع منافعه ، إذ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة ، فكذا هنا ، ولأن الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله وكوقف وأم ولد استغني عنها ، والثانية : لا ، لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [ البقرة : 280 ] ولقوله عليه السلام : خذوا ما وجدتم فليس لكم إلا ذلك . رواه مسلم ، ولأنه تكسب للمال ، فلم يجبر عليه كقبول هبة ووصية وتزويج أم ولد ورد مبيع وإمضائه ، وفيه وجه مع الأحظ وأخذ دية عن قود ، والأول أصح ، والآية محمولة على من لا صنعة له ، وادعاء الفسخ في الحديث بعيد ، لأنه يلزم ثبوته بالاحتمال بدليل أنه لم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في وقت في شريعتنا ، فتبين أن المراد ببيعه بيع منافعه مع أنه أحسن من حمله النسخ ، وحينئذ يبقى الحجر ببقاء دينه إلى الوفاء ، ولو [ ص: 329 ] طلبوا إعادته لما بقي بعد فك الحاكم ، لم يجبهم ( ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم ) ، لأنه ثبت بحكمه ، فلا يزول إلا به كالمحجور عليه لسفه ، وقيل : يزول بقسمة ماله ، لأنه حجر عليه لأجله ، فإذا زال ملكه عنه زال الحجر كزوال حجر المجنون بزوال جنونه ، والفرق واضح ، فإنه ثبت بنفسه فزال بزواله بخلاف هذا ، ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون ( فإذا فك عنه الحجر فلزمته ديون ) وظهر له مال ( وحجر عليه شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني ) لأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته ، فوجب أن يتساووا في المشاركة كغرماء الميت إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم ، والآخرين يضربون بجميعها ( فإن كان للمفلس حق له به شاهد واحد فأبى أن يحلف معه ) لم يجبر لأنا لا نعلم صدق الشاهد ( لم يكن للغرماء أن يحلفوا ) ، لأنهم يثبتون ملكا لغريمهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته ، فلم يجز كالمرأة تحلف لإثبات ملك زوجها لتتعلق نفقتها به ، وكالورثة قبل موت موروثهم ، وعلم منه أن المفلس إذا حلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء .




                                                                                                                          الخدمات العلمية