الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          باب استيفاء القصاص ويشترط له ثلاثة شروط : أحدها : أن يكون من يستحقه مكلفا ، فإن كان صبيا ، أو مجنونا لم يجز استيفاؤه . يحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون إلا أن يكون لهما أب ، فهل له استيفاؤه لهما ؛ على روايتين ، فإن كانا محتاجين إلى النفقة ، فهل لوليهما العفو على الدية ؛ يحتمل وجهين . وإن قتلا قاتل أبيهما ، أو قطعا قاطعهما قهرا احتمل أن يسقط حقهما ، واحتمل أن تجب لهما دية أبيهما في مال الجاني وتجب دية الجاني على عاقلتهما ، وإن اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة سقط حقهما وجها واحدا .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب

                                                                                                                          استيفاء القصاص

                                                                                                                          وهو فعل مجني عليه ، أو وليه بجان مثل ما فعل ، أو شبهه
                                                                                                                          ( ويشترط له ثلاثة شروط : أحدها : أن يكون من يستحقه مكلفا ) لأن غير المكلف ليس أهلا للاستيفاء لعدم تكليفه بدليل أنه لا يصح إقراره ، ولا تصرفه لأن غير المكلف إما صبي ، أو مجنون ، وكلاهما لا يؤمن منه الحيف على الجاني ، ولا يقوم وليه مقامه ؛ لأن القصاص شرع للتشفي ، فلم يقم غيره مقامه ( فإن كان صبيا ، أو مجنونا لم يجز استيفاؤه ) لما ذكرنا ، والقود ليس لأبيه ، ولا لغيره استيفاؤه ، وعنه : بلى ، حكاها أبو الخطاب ، وقالها الأكثر ; لأن القصاص أحد بدلي النفس ، فكان للأب استيفاؤه كالدية ، وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس ، والأول هو ظاهر المذهب ; لأنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته ، فلم يملك استيفاء القصاص كالوصي ، ولأن القصد التشفي وترك الغيظ ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب ، بخلاف الدية فإن الغرض يحصل باستيفائه [ ص: 279 ] ولأن الدية إنما يحصل استيفاؤها إذا تعينت ، والقصاص لا يتعين ، فعلى هذا ( يحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ) ويقدم الغائب ; لأن فيه حظا للقاتل بتأخير قتله وحظا للمستحق بإيصاله إلى حقه ، ولأنه يستحق إتلاف نفسه ومنفعته ، فإذا تعذر استيفاء النفس لعارض بقي إتلاف المنفعة سالما عن المعارض ، وقد حبس معاوية ، هدبة بن خشرم في قود حتى يبلغ ابن القتيل ، فلم ينكر ذلك ، وبذل الحسن ، والحسين ، وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات ، فلم يقبلها ، لا يقال : يجب أن يخلي سبيله كالمعسر لما في تخليته من تضييع الحق ; لأنه لا يؤمن هربه ، والفرق بينهما من وجوه : أحدها : أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار ، فلا يحبس بما لا يجب ، والقصاص واجب ، وإنما تعذر لمانع . الثاني : أن المعسر لو حبس تعذر عليه الكسب لقضاء الدين . الثالث : أنه قد استحق قتله ، وفيه تفويت نفسه ونفعه ، فإذا تعذر تفويت النفس لمانع جاز تفويت نفعه لإمكانه ، ولو كان القود لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه ، فإن أقام كفيلا بنفسه ليخلي سبيله لم يجز ; لأن الكفالة لا تصح في القصاص كالحد ( إلا أن يكون لهما أب ، فهل له استيفاؤه لهما ؛ على روايتين ) الأصح أنه ليس له ذلك ; لأن مقصود شرعية القصاص مفقود في الأب وكوصي وحاكم ، والثانية : بلى ; لأن له ولاية كاملة بدليل أنه يملك أن يبيع من نفسه لنفسه ، بخلاف غيره ( فإن كانا محتاجين إلى النفقة ، فهل لوليهما العفو على الدية ؛ يحتمل وجهين ) وحكاهما في " الفروع " روايتان : أحدهما : يجوز ، صححه [ ص: 280 ] القاضي والمؤلف ، وقدمه في " الرعاية " ، والثاني : المنع ، لأنه لا يملك إسقاط قصاصه ، ونفقته في بيت المال وكما لو كانا موسرين ، والأول أصح ; لأن وجوب نفقته في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل ، ولا يجوز عفوه مجانا ولولي الفقير المجنون العفو على مال ; لأنه ليس له حالة معتادة ينتظر فيها إفاقته ورجوع عقله ، بخلاف الصبي ، وهذا هو المنصوص ، وجزم به في " الوجيز " ، وعنه : لأب ، وعنه : ووصي وحاكم استيفاؤه لهما في نفس ، أو دونها فيعفو إلى الدية . نص عليه ( وإن قتلا قاتل أبيهما ، أو قطعا قاطعهما قهرا احتمل أن يسقط حقهما ) هذا وجه قدمه في " الفروع " ، وجزم به في " الوجيز " ; لأنه أتلف غير حقه فسقط الحق ، أشبه ما لو كانت لهما وديعة عند شخص فأخذاها منه قهرا وكما لو اقتصا ممن لا تحمل العاقلة ديته ( واحتمل أن تجب لهما دية أبيهما في مال الجاني وتجب دية الجاني على عاقلتهما ) جزم به في " الترغيب " و " عيون المسائل " ; لأنه ليس من أهل الاستيفاء ، فلا يكون مستوفيا لحقه فتجب لهما دية أبيهما في مال الجاني ; لأن عمد الصبي والمجنون خطأ ، وعلى عاقلتهما دية القاتل كما لو أتلف أجنبيا ، بخلاف الوديعة ، فإنها لو تلفت بغير تعد برئ منها المودع ، ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية ، فلو مات قبل تكليفه فحقه من القود إرث ، وقيل : يسقط إلى الدية كما لو مات المستحق الغائب وجهل عفوه ، قاله في " الرعاية " ( وإن اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة ) كالعبد ( سقط حقهما وجها واحدا ) لأنه لا يمكن إيجاب ديته على العاقلة ، فلم يكن إلا سقوطه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية