الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          باب حد القذف وهو الرمي بالزنا ، ومن قذف حرا محصنا ، فعليه جلد ثمانين جلدة ، إن كان القاذف حرا ، وأربعين إن كان عبدا ، وهل حد القذف حق لله تعالى ، أو للآدميين ؛ على روايتين . وقذف غير المحصن يوجب التعزير ، والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله ، وهل يشترط بلوغه ؛ على روايتين . وإن قال : زنيت وأنت صغيرة ، وفسره بصغر عن تسع سنين ، لم يحد ، وإلا خرج على الروايتين ، وإن قال لحرة مسلمة : زنيت ، وأنت نصرانية أو أمة ، ولم تكن كذلك ، فعليه الحد ، وإن كانت كذلك ، وقالت : أردت قذفي في الحال ، فأنكرها ، على وجهين . ومن قذف محصنا ، فزال إحصانه قبل إقامة الحد ، لم يسقط الحد عن القاذف .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب حد القذف .

                                                                                                                          وهو محرم بالإجماع ، وسنده قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم [ النور : 23 ] وقوله عليه السلام : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؛ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . متفق عليه . ( وهو الرمي بالزنا ) فبيان لمعنى القذف ، وكذا رميه بلواط أو شهادة عليه به ، ولم تكمل البينة ، وأصله : الرمي بالحجر بخلاف الخذف بالخاء المعجمة فإنه الرمي بالحصى ، وهو في الأصل رمي الشيء بقوة ، ثم استعمل في الرمي بالزنا ونحوه من المكروهات ، يقال : قذف يقذف قذفا ، فهو قاذف ، وجمعه قذاف وقذفة ، كفاسق وفسقة ، وكافر وكفرة ( ومن قذف ) وهو مكلف [ ص: 84 ] مختار ( حرا محصنا ، فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حرا ، وأربعين إن كان عبدا ) أجمعوا على وجوب الحد على من قذف محصنا ، حرا كان القاذف أو عبدا ، وأن حده ثمانون إن كان حرا ، لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 23 ] والرقيق على النصف من ذلك في قول أكثر العلماء ، ويروى أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلد عبدا قذف حرا ثمانين ، وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز ، لعموم الآية ، والصحيح الأول ، لإجماع الصحابة ، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة : أدركت أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، والخلفاء ، هلم جرا ، ما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين ، رواه مالك . كحد الزنا ، والآية وإن كانت عامة ، فدليلنا خاص ، والخاص مقدم ، وتقدم قول الخرقي : يكون بدون سوط الحر ، وظاهره : ولو ذات محرم أو مجبوبا سوى ولده وإن نزل ، نص على الثلاثة ، ولو عتق قبل حد ، ومعتق بعضه بالحساب ، وقيل : كعبد ( وهل حد القذف حق لله تعالى ، أو للآدميين ؛ على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما وهي الأظهر والأشهر وقاله الجمهور ، هو حق لآدمي ، فعليه يسقط بعفوه عنه ، قال القاضي وأصحابه : لا عفوه عن بعضه .

                                                                                                                          والثانية : هو حق لله ، قدمها في الرعاية ، وعليها لا يسقط بالعفو أو الإبراء ، ولا يستوفيه إلا الإمام أو نائبه ، وعليهما : لا يحد ولا يجوز أن يعرض له إلا بطلب ، وذكره الشيخ تقي الدين إجماعا ، ويتوجه على الثانية وبدونه ، ولا يستوفيه بنفسه ، خلافا لأبي الخطاب ، وإنه لو فعل لم يعتد به ، وعلله القاضي بأنه تعتبر نية الإمام أنه حد ، وفي البلغة : لا يستوفيه بدونه ، [ ص: 85 ] فإن فعل ، فوجهان ، وإن هذا في القذف الصريح ، وإن غيره يبرأ به ، سواء على خلاف في المذهب كاعتبار الموالاة أو النية ( وقذف غير المحصن ) كمن قذف مشركا ، أو عبدا ، أو مسلما له دون عشر سنين ، أو مسلمة لها دون تسع سنين ، أو من ليس بعفيف ( يوجب التعزير ) ردعا له عن أعراض المعصومين وكفالة عن أذاهم ، وقيل : سوى سيد لعبده .

                                                                                                                          فرع : يحد أبواه وإن علوا بقذفه ، وإن نزل كقود ، فلا يرثه عليهما ، وإن ورثه أخوه لأمه ، وحد له لتبعيضه ، وفي الترغيب : لا يحد أب ، وفي أم وجهان ( والمحصن ) هنا ( هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله ) هذه صفة المحصن الذي يحد بقذفه ، أما الحرية والإسلام ، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة ، فلم ينتهض لإيجاب الحد ، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة ، وغيرهما ليس في معناهما ، وأما العقل ، فلأن المجنون لا يعير بالزنا ، لعدم تكليفه ، وغير العاقل لا يلحقه شين بإضافة الزنا إليه لكونه غير مكلف ، وأما العفة عن الزنا فلأن غير العفيف لا يشينه القذف ، والحد إنما وجب من أجل ذلك ، وقد أسقط الله الحد عن القاذف إذا كان له بينة بما قال ، وأما كونه يجامع مثله فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف ، لتحقق كذب القاذف ، وأقله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكرا ، أو تسع سنين إن كانت أنثى ، وظاهره : أنه لا تشترط فيه العدالة ، بل لو كان المقذوف فاسقا ، كشربه الخمر أو لبدعة ، ولم يعرف بالزنا أنه يجب الحد بقذفه ، وقال الشيرازي : لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة ، وقال ابن أبي موسى : إذا قذف أم ولد - رجل ، وله منها [ ص: 86 ] ولد ؛ حد ، وإذا قذف مسلم ذمية تحت مسلم ، أو لها منه ولد حد في رواية ، وإن قذف عبد عبدا جلد أربعين ، قاله في الرعاية ( وهل يشترط بلوغه ؛ على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما : يشترط ، قيل : إنها مخرجة ، وليست بمنصوصة لأن غير البالغ غير مكلف ، أشبه المجنون .

                                                                                                                          والثانية : ليس بشرط ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب وصاحب الوجيز ، لأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه ويعير بذلك ، ولهذا جعل عيبا في الرقيق ، أشبه البالغ ، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان ، ولعله مبني على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا ؛ فذكر عن القاضي أنه وصفه به ، وظاهر كلام جماعة عدم وصفه بذلك ، وظاهر كلام آخرين أنه لا تشترط السلامة في ذلك .

                                                                                                                          فرع : إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم عليه حتى يبلغ ، ويطالب لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ ، وليس لوليه المطالبة حذارا من فوات التشفي ، ولو قذف غائبا اعتبر قدومه وطلبه إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ، فيقام على المذهب ، وقيل : لا لاحتمال عفوه ، ولو قذف عاقلا فجن أو أغمي عليه قبل الطلب لم يقم حتى يفيق ويطالب ، وإن كان بعد الطلب جازت إقامته .

                                                                                                                          مسألة : يشترط لإقامة الحد على القاذف أمران : أحدهما : مطالبة المقذوف ، لأنه حق له كسائر حقوقه ، الثاني : ألا يأتي ببينة ، فإن كان القاذف زوجا ، اعتبر آخر ، وهو امتناعه من اللعان ، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامته ، فلو طلب ثم عفا سقط ، ويحد بقذف على جهة الغيرة - بفتح الغين - ويتوجه احتمال [ ص: 87 ] وأنها عذر في غيبة ونحوها ( وإن قال ) لمحصنة ( زنيت وأنت صغيرة ، وفسره بصغر عن تسع سنين لم يحد ) لأن حد القذف إنما وجب لما يلحق بالمقذوف من العار ، وهو منتف للصغر ، بل يعزر ، زاد في المغني : إن رآه الإمام ، وأنه لا يحتاج إلى طلب ، لأنه لتأديبه ( وإلا خرج على الروايتين ) وكذا في الفروع ، في اشتراط البلوغ ، جزم في الوجيز بالحد ( وإن قال لحرة مسلمة : زنيت ، وأنت نصرانية أو أمة ، ولم تكن كذلك ، فعليه الحد ) لأنه يعلم كذبه ، وإن لم يثبت ذلك على الأصح ، فإن ثبت فلا حد على الأصح ( وإن كانت كذلك ) لم يحد على الأشهر ( وقالت : أردت قذفي في الحال فأنكرها ) فهل يحد ، أو يعزر ؛ ( على وجهين ) الأصح أنه لا حد عليه ، لأن ظاهر لفظه يقتضي تعليق : وأنت نصرانية أو أمة ، بقوله : زنيت فيصير كأنه قال لها : زنيت حال النصرانية أو الرق ، ولا حد مع ذلك ، لأن ارتباط الكلام بعضه ببعض أولى من عدم ارتباطه ، قال في الفروع : ويتوجه مثله إن أضافه إلى جنون ، وفي الترغيب : إن كان ممن يجن لم يقذفه ، وفي المغني : إن ادعى أنه كان مجنونا حين قذفه ، فأنكرت ، وعرفت له حالة جنون وإفاقة ، فوجهان ، وإن ادعى رق مجهولة فروايتان ، وإن ادعى أن قذفا متقدما كان في صغر ، أو قال : زنيت مكرهة ، أو قال : يا زانية ، ثم ثبت زناها في كفر ، لم يحد كثبوته في إسلام ، وفي المبهج : إن قذفه بما أتى في الكفر حد لحرمة الإسلام ، وسأله ابن منصور : رجل رمى امرأة بما فعلت في الجاهلية ؛ قال : يحد ، وذكر القاضي : لو قال ابن عشرين لابن خمسين : زنيت من ثلاثين سنة ، لم [ ص: 88 ] يحد ، وهو سهو ( ومن قذف محصنا ، فزال إحصانه قبل إقامة الحد ، لم يسقط الحد عن القاذف ) نص عليه . حكم حاكم بوجوبه أم لا ، لأن الحد يعتبر بوقت وجوبه ، وكما لا يسقط بردته وجنونه ، وبخلاف فسق الشهود قبل الحكم لضيق الشهادة ، وعلله المؤلف بأنه حق آدمي ، وبأن الزنا نوع فسق ، واحتمال وجود الجنس أكثر من النوع إلا أن يتقدم مزيله على القذف بإقرار أو بينة .




                                                                                                                          الخدمات العلمية