الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الركن الثالث

وهو النية

والنظر في النية في مواضع :

منها : هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط ؟ وإن كانت شرطا فما الذي يجزئ من تعيينها ؟ وهل يجب تجديدها في كل يوم من أيام رمضان أم يكفي في ذلك النية الواقعة في اليوم الأول ؟ وإذا أوقعها المكلف فأي وقت إذا وقعت فيه صح الصوم ؟ وإذا لم تقع فيه بطل الصوم ؟ وهل رفض النية يوجب الفطر وإن لم يفطر ؟ وكل هذه المطالب قد اختلف العلماء فيها .

أما كون النية شرطا في صحة الصيام : فإنه قول الجمهور; وشذ زفر فقال : لا يحتاج رمضان إلى النية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم .

والسبب في اختلافهم : الاحتمال المتطرق إلى الصوم ؛ هل هو عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى ؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية ، ومن رأى أنها معقولة المعنى قال : قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو ، لكن تخصيص زفر رمضان بذلك من بين أنواع الصوم فيه ضعف ، وكأنه لما رأى أن أيام رمضان لا يجوز فيها الفطر ، أي أن كل صوم يقع فيها ينقلب صوما شرعيا ، وأن هذا شيء يخص هذه الأيام .

وأما اختلافهم في تعيين النية المجزية في ذلك : فإن مالكا قال : لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان ، ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان . وقال أبو حنيفة : إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه ، وكذلك إن نوى فيه صيام غير رمضان أجزأه، وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا ، فإنه إذا نوى المسافر عنده في رمضان صيام غير رمضان كان ما نوى ، لأنه لم يجب عليه صوم رمضان وجوبا معينا ، ولم يفرق صاحباه بين المسافر والحضر، وقالا : كل صوم نوي في رمضان انقلب إلى رمضان .

وسبب اختلافهم : هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها ؟ وذلك أن كلا الأمرين موجود في الشرع ، مثال ذلك : أن النية في الوضوء يكفي منها اعتقاد رفع الحدث لأي شيء كان من العبادة التي الوضوء شرط في صحتها ، وليس يختص عبادة عبادة بوضوء وضوء . وأما الصلاة فلا بد فيها من تعيين شخص العبادة ، فلا بد من تعيين الصلاة إن عصرا فعصرا ، وإن ظهرا فظهرا ، وهذا كله على المشهور عند العلماء ، فتردد الصوم عند هؤلاء بين هذين الجنسين ، فمن ألحقه بالجنس الواحد قال : يكفي في ذلك اعتقاد الصوم فقط ، ومن ألحقه بالجنس الثاني اشترط تعيين الصوم .

[ ص: 245 ] واختلافهم أيضا في إذا نوى في أيام رمضان صوما آخر هل ينقلب أو لا ينقلب ؟ سببه أيضا : أن من العبادة عندهم من ينقلب من قبل أن الوقت الذي توقع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه ، ومنها ما ليس ينقلب : أما التي لا تنقلب فأكثرها ، وأما التي تنقلب باتفاق فالحج . وذلك أنهم قالوا إذا ابتدأ الحج تطوعا من وجب عليه الحج انقلب التطوع إلى فرض ، ولم يقولوا ذلك في الصلاة ولا في غيرها . فمن شبه الصوم بالحج قال ينقلب ومن شبهه بغيره من العبادات قال لا ينقلب .

وأما اختلافهم في وقت النية : فإن مالكا رأى أنه لا يجزئ الصيام إلا بنية قبل الفجر ، وذلك في جميع أنواع الصوم . وقال الشافعي : تجزئ النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزئ في الفروض . وقال أبو حنيفة : تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين مثل رمضان ونذر أيام محدودة ، وكذلك في النافلة ، ولا يجزئ في الواجب في الذمة .

والسبب في اختلافهم : تعارض الآثار في ذلك; أما الآثار المتعارضة في ذلك :

فأحدها : ما خرجه البخاري عن حفصة أنه قال - عليه الصلاة والسلام - : " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " . ورواه مالك موقوفا . قال أبو عمر : حديث حفصة في إسناده اضطراب .

والثاني : ما رواه مسلم عن عائشة قالت : " قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم : يا عائشة هل عندكم شيء ؟ قالت : قلت يا رسول الله ما عندنا شيء ، قال فإني صائم " .

ولحديث معاوية أنه قال على المنبر : يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر " .

فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة ، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين النفل والفرض - أعني : حمل حديث حفصة على الفرض ، وحديث عائشة ومعاوية على النفل - وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة ، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين ، الذي في الذمة ليس له وقت مخصوص ، فأوجب أن التعيين بالنية .

وجمهور الفقهاء على أنه ليست الطهارة من الجنابة شرطا في صحة الصوم ؛ لما ثبت من حديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم " ومن الحجة لهما الإجماع على أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصوم . وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أنه إن تعمد ذلك أفسد صومه .

وسبب اختلافهم : ما روي عن أبي هريرة أنه كان يقول : " من أصبح جنبا في رمضان أفطر " . وروي عنه أنه قال : ما أنا قلته ، محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله ورب الكعبة . وذهب ابن الماجشون من أصحاب مالك أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل أن يومها يوم فطر، وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة الثابتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية