الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 377 ]

                وعند أبي حنيفة : هو فاسد غير باطل ، إعمالا لدليلي الجواز والمنع .

                لنا : أن المنهي عنه ، ليس هذه الصفة ، بل الموصوف بها ، وإلا للزم صحة بيع المضامين والملاقيح ، إذ النهي عنها لوصفها ، وهو تضمنها الغرر ، لا لكونها بيعا ، إذ البيع مشروع إجماعا .

                التالي السابق


                " وعند أبي حنيفة هو " يعني هذا المنهي عن وصفه " فاسد غير باطل " ، وهو يفرق بينهما كما سيأتي إن شاء الله تعالى " إعمالا " أي : فرق في هذا بين الفاسد والباطل " إعمالا لدليلي الجواز والمنع " وذلك أن أبا حنيفة رحمه الله نظر في هذه الأحكام ونحوها ، فرآها من حيث ذواتها مشروعة ، وإنما تعلق النهي بها من جهة وقوعها على حال ووصف ممنوع ، كالصلاة : هي في نفسها مشروعة ، لكن إيقاعها في حال السكر والحيض أو في الأماكن والأوقات المنهي عنها واتصافها بذلك هو الممنوع ، والبيع باعتبار ذاته مشروع ، وإنما الممنوع إيقاعه على صفة الربا أو مقترنا بشرط فاسد ، ولذلك قال : إن بيع درهم بدرهمين يصح ، وتلغو الزيادة وتلزم باتصال القبض به ، ويكون مكروها لتعلق النهي بوصفه واتصافه بالفساد وكذلك الطواف مشروع ، وإيقاعه مع الحدث ممنوع ، والطلاق مشروع ، وإيقاعه في الحيض ممنوع ، والسفر مشروع ، وقصد الإباق فيه عن السيد ممنوع ، فلذلك أجاز الترخص للعاصي بسفره ، وصحح طواف المحدث ، وأوقع الطلاق في الحيض .

                قال : فمطلوبية هذه الأفعال من حيث ذواتها دليل الجواز ، وتعلق النهي بها من [ ص: 378 ] جهة أوصافها دليل المنع ، وإعمال الدليل واجب ما أمكن ، فأعملنا الدليلين ، وجعلنا هذا القسم واسطة بين القسمين الأولين ، وسميناه : الفاسد ، فيصح لدليل الصحة ، لكن مع ضعف يتوقف على انضمام مقو إليه ، كالقبض في بيع درهم بدرهمين ، أو مع كراهة كطواف المحدث لدليل المنع .

                قوله : " لنا " أي : على أن هذا باطل ، لا فرق بينه وبين ما يرجع النهي عنه إلى ذاته " أن المنهي عنه ليس هذه الصفة بل الموصوف بها " ، فليس المنهي عنه وصف الصلاة بكونها واقعة في حال السكر ، ولا وصف البيع بأنه اشتمل على زيادة ربوية ، ولا وصف الطواف بوقوعه في حال الحدث ، ونحوه من الصور ، بل المنهي عنه نفس الصلاة الواقعة حال السكر ، ونفس البيع المشتمل على الزيادة ، ونفس الطواف الواقع حال الحدث ، كما أن المنهي عنه نفس الزنى الواقع في غير محل الحرث شرعا .

                قوله : " وإلا للزم " إلى آخره ، أي : وإن لم يكن المنهي عنه في هذه الصور هو الموصوف بالصفة للزم صحة بيع المضامين والملاقيح ، لأن النهي عن بيعها إنما هو لصفة وهو تضمنه الغرر ، لا لكونه بيعا ، إذ البيع من حيث هو بيع مشروع بالإجماع ، ولما بطل بيع المضامين والملاقيح باتفاق مع اشتماله على جهة بيع [ ص: 379 ] مشروع ووصف ممنوع ، ولم يقل فيه ما قال في بيع درهم بدرهمين ، دل على ما ذكرناه من أن النهي إنما توجه إلى الذات المتصفة لا إلى صفة الذات ، وقد نبهت بما ذكرناه على أن تلخيص مأخذ المسألة أن النهي فيها عن الموصوف أو عن الصفة .

                تنبيهان : اعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذا الأصل أدخل في التدقيق وأشبه بالتحقيق ، ثم لما تقرر هذا الخلاف بين الأئمة ، خرج عن قاعدة كل منهم بعض الصور ، فاحتاج ذلك إلى جواب .

                أما من قال : يرجع النهي إلى الموصوف لا إلى الصفة ، فورد عليه نحو الطلاق في الحيض ، فإنه ينفذه ويوقعه ، مع أن النهي عنه يقتضي تعلقه بنفس الطلاق ، وذلك يقتضي عدم وقوعه لكونه منهيا عنه .

                وجوابه : أن الدليل لما قام على وقوع الطلاق في الحيض ، صرفنا النهي عنه إلى ما يلزم منه من تطويل العدة ، جمعا بين دليل النفوذ واحتياج النهي إلى متعلق .

                وأما من قال : يرجع النهي إلى وصف الفعل ، فورد عليه مثل صلاة المحدث والحائض ، فإن دليله يقتضي صحتها ، من حيث إن الصلاة لذاتها مطلوبة ، وإنما الممنوع إيقاعها حال الحدث والحيض .

                فأجاب عن ذلك بأن الدليل دل على أن الطهارة شرط في الصلاة ، فانتفت لانتفاء شرطها بالحدث والحيض ، بخلاف طواف المحدث ، إذ لم يدل الدليل على أن الطهارة شرط للطواف . [ ص: 380 ]

                وكذلك يتأتى الجواب عن لحوق النسب في الزنى ، حيث كان طلب الولد بالوطء مشروعا ، وإنما الممنوع إيقاعه في الأجنبية ، فينبغي أن يلحق .

                فيقال : دل الدليل على أن شرط لحوقه أن يكون الوطء في محل مملوك شرعا بنكاح أو ملك يمين ، فانتفى اللحوق لانتفاء شرطه .

                قلت : وحاصل الأمر يرجع إلى تخصيص القواعد بالدليل ، وهو جائز ، كتخصيص العموم والقياس .

                نعم قد يقع الترجيح بقلة التخصيص ، لأنه على خلاف الأصل ، فأي المذهبين كان التخصيص عليه أقل كان راجحا ، ويعرف ذلك باستقراء فروع القاعدة .

                التنبيه الثاني : أن قولي في " المختصر " : " أو إلى وصف المنهي عنه فقط " ، مع قولي بعد ذلك : " إن المنهي عنه ليس هذه الصفة بل الموصوف بها " ظاهر التناقض ، لأنه متى كان المنهي عنه الموصوف لم يكن النهي راجعا إلى وصفه فقط .

                وإنما تابعت الشيخ أبا محمد وهو تابع الشيخ أبا حامد ، وما ذكرته من ذلك هو معنى ما ذكراه جميعا ، وإذا تأملته أنت عرفته ، ولم أتنبه لهذا إلا الآن .

                وكذلك قولي فيه : " وإلا للزم صحة بيع المضامين والملاقيح إذ النهي عنها لوصفها وهو تضمنها الغرر " . الصواب فيه أن يقال : إذ النهي عنه لوصفه وهو تضمنه [ ص: 381 ] الغرر ردا للضمير إلى البيع لا إلى المضامين والملاقيح ، والأمر في هذا أقرب ، والمضامين : ما في أصلاب الفحول من الماء ، والملاقيح : ما في بطون النوق من الأجنة ، الواحد ملقوحة ، ذكر ذلك الجوهري .




                الخدمات العلمية