الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 157 ] الخامسة : لا يشترط ذكورية الراوي ، ولا رؤيته ، لقبول الصحابة خبر عائشة من وراء حجاب . ولا فقهه ، لقوله عليه السلام : رب حامل فقه غير فقيه . ولا معرفة نسبه ، كما لو لم يكن له نسب أصلا ، وأولى . ولا عدم العداوة والقرابة ، لعموم حكم الرواية ، وعدم اختصاصها بشخص ، بخلاف الشهادة ، ومن اشتبه اسمه باسم مجروح رد خبره ، حتى يعلم حاله .

                التالي السابق


                المسألة الخامسة : لا يشترط ذكورية الراوي ، ولا رؤيته ، أي : لا يشترط أن يكون الراوي ذكرا ، ولا أن يكون مرئيا ، مشاهدا حال السماع منه .

                قوله : " لقبول الصحابة خبر عائشة من وراء حجاب " .

                هذا دليل على عدم اعتبار الشرطين ؛ فإنهم كانوا يقبلون روايتها وهي أنثى ، وكذلك أجمعوا على قبول رواية النساء غيرها ، وكانوا يسمعون منها وهي وراء حجاب ؛ لأنها ما كان يراها إلا محارمها ، كالقاسم بن محمد وهو ابن أخيها ، وعروة بن الزبير ، وهو ابن أختها أسماء ، وعمرة بنت عبد الرحمن وهي بنت أخيها ، وهي امرأة مثلها ، ولهذا رجحت رواية هؤلاء على رواية غيرهم من الأجانب إذا عارضتها ، لكون هؤلاء يسمعون منها بغير حجاب ، بخلاف غيرهم ، وهو معنى يناسب الترجيح ، ويصلح له .

                قوله : " ولا فقهه " ، أي : ولا يشترط أن يكون فقيها ، وهو قول إمام الحرمين ، وجماعة غيره ، خلافا لمالك وأبي حنيفة في اشتراطه ، ولذلك قدح أهل العراق [ ص: 158 ] في رواية أبي هريرة ؛ لأنه لم يكن مشهورا بالفقه عندهم ، وإن احتجوا بأن غير الفقيه مظنة سوء الفهم ، ووضع النصوص على غير المراد منها ؛ فالاحتياط للأحكام أن لا يروى عنه .

                ولنا ما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه . رواه أبو داود والنسائي والترمذي . وقال : حديث حسن وهذا نص في قبول رواية من ليس بفقيه . وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه : فرب مبلغ أوعى من سامع . رواه ابن ماجه والترمذي ، وصححه .

                ومبلغ : بفتح اللام ، وهو الذي يبلغه الحديث عمن هو دونه في الفهم . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، ولم يشترط الفقه ، ولا فرق بين الفقيه وغيره .

                [ ص: 159 ] وأما ما ذكروه من أن غير الفقيه مظنة سوء الفهم ؛ فلا يلزم ؛ لأنا إنما نقبل روايته ، إذا روى باللفظ ، أو المعنى المطابق ، وكان يعرف مقتضيات الألفاظ ، والعدالة تمنعه من تحريف لا يجوز ؛ فيكون ما يرويه لنا لفظ صاحب الشرع أو معناه ، وحينئذ نأمن وقوع الخلل ، ويجب علينا العمل .

                قوله : " ولا معرفة نسبه " ، أي : ولا يشترط معرفة نسب الراوي ، كما لو لم يكن له نسب أصلا كالعبد ، وولد الزنى ، والمنفي باللعان ، إذا كانوا عدولا ، قبلت روايتهم ، ولا نسب لهم أصلا ، وأولى ، أي : فتقبل رواية من لا يعرف نسبه ، قياسا على من لا نسب له أصلا ، وهي أولى بالقبول ؛ لأن هذا له نسب ، لكنه مجهول ، وأولئك لا نسب لهم أصلا ، والموجود المجهول أحسن حالا من المعدوم بالكلية .

                قوله : " ولا عدم العداوة والقرابة " ، أي : ولا يشترط في الراوي أن لا يكون عدوا ، ولا قريبا ، لمن روى في حقه خبرا ، مثل أن تثبت السرقة على شخص ؛ فروى عدو له : من سرق فاقطعوه . مثلا ، وإن كان هذا الحكم معلوما بالنص والإجماع . أو [ ص: 160 ] يثبت لشخص حق بشاهد واحد ؛ فروى أبوه أو ابنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قضى بشاهد ويمين ؛ فلا تقدح عداوة الأول ، وقرابة الثاني في هذه الرواية ، لعموم حكم الرواية ، وعدم اختصاصها بشخص ، بخلاف الشهادة .

                وتقرير هذا الكلام - وإن كان بينا ، وقد أشرنا إليه فيما سبق - : هو أن حكم الرواية عام ؛ لأنه يثبت بها حكم عام على هذا المروي في حقه وحق غيره ؛ فالمسلم العاقل لا تحمله تهمة العداوة والقرابة على أن يتحمل الإثم العام ، لبلوغ غرضه في عدو أو قريب ، بخلاف الشهادة ، حيث منع من قبولها العداوة والقرابة ؛ فإنها على شخص مخصوص ؛ فحكمها وضررها غير عام ؛ فقد ينقدح للشخص أن يقول : أنا أضر عدوي هذا بالشهادة عليه زورا ، وأنفع قريبي هذا بالشهادة له كذلك ، ثم أستدرك إثم هذه الشهادة بفعل قربة من القرب ، أو قربات من صلاة ، وصدقة ، وصيام ، وحج ، وأمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، حتى أفعل من الحسنات ما يذهب بتلك السيئة . بخلاف الضرر العام على الناس بكذبه في الرواية ؛ فإنه لا يطمع في استدراكه ؛ فيجبن عن الكذب فيها .

                قوله : " ومن اشتبه اسمه باسم مجروح ، رد خبره حتى يعلم حاله " ، وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح فلا تقبل روايته ؛ فيتوقف حتى يعلم : هل هو المجروح أو الثقة ؟ وكثيرا ما يفعل المدلسون مثل هذا ، يذكرون الراوي [ ص: 161 ] الضعيف باسم يشاركه فيه راو ثقة ، ليظن أنه ذلك الثقة ، ترويجا لروايتهم . ومثال المسألة : الأعرج عن أبي هريرة ، هما اثنان عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وهو ثقة من رجال الصحيح ، وحميد بن عبد الله الأعرج ، وهو ضعيف ، وكذلك شريك بن عبد الله بن أبي نمر ليس بالقوي فيما ذكره النسائي وحكي عن يحيى بن معين ، وشريك بن عبد الله القاضي ، ثقة قوي ، وأمثال هذا كثير ينبغي التحفظ منه ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية