الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء

                التالي السابق


                قوله : " والفقه لغة " أي في اللغة : " الفهم ومنه : ما نفقه كثيرا مما تقول [ هود : 91 ] ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ الإسراء : 44 ] أي : ما نفهم ، ولا تفهمون

                هذا تعريف المضاف إليه من لفظ أصول الفقه ، وهو الفقه بحسب اللغة . وقبل الشروع فيه هاهنا تنبيه كلي ، وهو أن الأصوليين والفقهاء جرت عادتهم أنهم إذا انتصبوا لبيان لفظ ، بينوه من جهة اللغة والشرع ، فقالوا مثلا : الفقه في اللغة : كذا ، وفي الاصطلاح الشرعي : كذا ، كما نحن بصدد بيانه إن شاء الله تعالى .

                والصلاة في اللغة : الدعاء ، وفي الشرع الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم ، وأشباه ذلك مما يكثر ، وذلك بناء منهم على إثبات الحقائق الشرعية ، وهي من كبار المسائل .

                وصورة ذلك : أن الشرع ، هل وضع لحقائقه الشرعية أسماء بإزائها وضعا استقلاليا خارجا عن وضع أهل اللغة ، أو أنه أبقى الموضوعات اللغوية على حالها ، وزاد فيها شرعا شروطا وأفعالا أخر ؟

                مثاله : أنه سمى الصلاة الشرعية صلاة ، لاشتمالها على الصلاة اللغوية ، وهي الدعاء ، لكن اشترط لها في الشرع شروطها الستة ، وأركانها الثلاثة عشر ، وكذلك سمى الصوم الشرعي صوما لاشتماله على الصوم اللغوي ، وهو الإمساك ، وزاده النية ، وقدر وقته .

                هذا فيه خلاف بين الأصوليين ، والمسألة مذكورة بأدلتها في فصل اللغات . [ ص: 130 ]

                إذا ثبت هذا عدنا إلى لفظ المختصر .

                فالفقه في الوضع : " الفهم " ، كذا قال الشيخ أبو محمد والأكثرون . يقال : فقهت الكلام ، أي : فهمت غرض المتكلم منه . وكذلك قال في " المحصول " : الفقه في اللغة : عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه .

                وقوله : " ومنه ما نفقه كثيرا " هو استدلال على أن الفقه الفهم ، أي : ومما أطلق فيه الفقه بمعنى الفهم ، قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب أنهم قالوا له : ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول [ هود : 91 ] ، أي ما نفهم كثيرا من قولك ، وكذا قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ الإسراء : 44 ] أي لا تفهمون ، لأنكم محجوبو الأسماع عن سماعه ، كما أنكم محجوبو الأبصار عن رؤية الملائكة والجن والهواء ونحوها مما لا يرى ، ومن ذلك قوله تعالى : حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا [ الكهف : 93 ] ، وقوله تعالى : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ النساء : 78 ] ، وقول موسى عليه السلام : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ طه : 28 ] ، وكل ذلك بمعنى يفهمون .

                وقوله : " أي ما نفهم ولا تفهمون " هو تفسير لمعنى الفقه في الآيتين ، لأنه ذكرهما متواليتين ، ثم ذكر تفسيرهما متواليا ، وهو يسمى اللف والنشر ، فتقديره : ما نفقه كثيرا ، أي ما نفهم ، ولكن لا تفقهون أي : لا تفهمون . ومثله في اللف والنشر قوله سبحانه [ ص: 131 ] وتعالى : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ القصص : 73 ] ، أي : جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، والنهار لتبتغوا من فضله .

                واعلم أن المصنفين اختلفوا في معنى الفقه من حيث اللغة ، فقال الغزالي والآمدي وابن الصيقل من أصحابنا : هو العلم والفهم . يقال : فلان يفقه الخير والشر ، ويفقه كلام فلان ، أي : يفهمه ويعلمه .

                وقال القاضي في " العدة " : الفقه في اللغة : العلم ، ثم ذكر المثال المذكور قبل .

                قال : وذكر ابن قتيبة أن الفقه في اللغة : الفهم .

                وقال القرافي : الفقه : هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة ، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف ، وحكاه عن المازري في " شرح البرهان " .

                قلت : كل ذلك له أصل في اللغة ، فقد قال ابن فارس في " المجمل " : الفقه العلم ، وكل علم بشيء فهو فقه .

                غير أن الجوهري لم يذكر غير أن الفقه الفهم ، وهو الأكثر المشهور ، ولا شك أن بين الفهم والعلم ملازمة ، إذ الفهم يستلزم علم المعنى المفهوم ، والعلم يستلزم فهم الشيء المعلوم ، فيشبه أن من سمى الفقه علما تجوز في ذلك لهذه الملازمة ، وعلى هذا يحمل ما ذكره الجوهري في ( فهم ) : فهمت الشيء فهما ، علمته ، إذ لو كان الفهم العلم حقيقة مع قوله : الفقه الفهم ، لكان الفقه هو العلم ، فكان تفسيره به بدون واسطة الفهم أولى لأنه أشهر .

                ومما يدل على تغاير الفقه والفهم ، أن الفقه يتعلق بالمعاني دون الأعيان ، والعلم [ ص: 132 ] يتعلق بهما ، فيصح أن يقال : علمت معنى كلامه ، وعلمت السماء والأرض ، وتقول : فقهت معنى الكلام وفهمته ، ولا يقال : فقهت السماء والأرض .

                وحكى القرافي عن أبي إسحاق الشيرازي - ولم أجده في " اللمع " ، فلعله في غيره أو في غير مظنته - : أن الفقه في اللغة إدراك الأشياء الخفية ، فلذلك تقول : فهمت كلامك ، ولا تقول : فهمت السماء والأرض . وهذا يقتضي أن الفقه أخص من العلم ، فهذا اختلافهما بحسب متعلقهما .

                وأما بحسب حدهما ، فالعلم قد علم حده بما مر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

                والفهم ، قال ابن عقيل في " الواضح " : هو إدراك معنى الكلام بسرعة . قلت أنا : ولا حاجة لقيد السرعة ، لأن من سمع كلاما ولم يدرك معناه إلا بعد شهر ، أو أكثر ، قيل : قد فهمه ، ولذلك يقال : الفهم إما بطيء أو سريع ، فينقسم إليهما ومورد القسمة مشترك بين الأقسام ، نعم ، السرعة قيد في الفهم الجيد .

                فقد تحقق بما ذكرته ، أن الفقه هو الفهم ، يقال : فقه بكسر القاف : إذا صار فقيها ، وفقه غيره ، بفتحها : إذا غلبه في الفقه وترجح عليه ، وفقه ، بضمها - : إذا صار الفقه له سجية وخلقا وملكة .




                الخدمات العلمية