الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 140 ]

                " وعن " في قوله : عن أدلتها ، متعلقة بمحذوف تقديره : الفرعية الصادرة أو الحاصلة عن أدلتها التفصيلية ، احترازا من الحاصلة عن أدلة إجمالية ، كأصول الفقه ، نحو قولنا : الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة ، وكالخلاف ، نحو : ثبت بالمقتضي ، وامتنع بالنافي .

                التالي السابق


                قوله : " وعن في قوله : عن أدلتها " إلخ ، يعني أن " عن " المذكورة في قولنا : الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، لا بد لها من فعل أو معنى فعل تتعلق به ، لأن حروف الجر إنما وضعت في الكلام لتجر معاني الأفعال إلى الأسماء ، نحو : ذهبت إلى زيد ، وجئت من عند عمرو ، فإلى جرت معنى ذهابك إلى زيد ، بمعنى أنها أفادت أن ذهابك كان نحوه ، وأنت متوجه شطره ، ومن جرت معنى ذهابك إلى عمرو ، بمعنى أنها أفادت أن مجيئك كان من جهته منصرفا إلى غيرها ، ولأجل ذلك سميت حروف الجر ، ومعنى تعلق الحرف بالفعل : هو أن لا يصح معنى الكلام وينتظم إلا باتصاله به ، ولو قدر اتصاله بغيره ، لم يصح ، كقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . بالبينات والزبر [ النحل : 43 - 44 ] ، فإن قوله : بالبينات ، ليس متعلقا بتعلمون ، ولا بقوله : فاسألوا ، بل بأرسلنا ، أي أرسلنا قبلك رجالا بالبينات والزبر ، إذ لا ينتظم أن يقال : بالزبر ، ولا اسألوا بالزبر ، فمتى كان في الكلام فعل موجود يصلح أن يتعلق حرف الجر به ، وجب تعلقه به ، وإن لم يكن ، قدر له فعل أو معناه تعلق به على حسب ما يقتضيه الكلام ، وليس فيما نحن فيه فعل يصلح أن تتعلق " عن " به ولا معناه ، لأن الأحكام الشرعية والفرعية أسماء محضة ، ومعنى الفعل فيها [ ص: 141 ] خامل خفي ، فوجب تقدير ما تتعلق به عن ، لئلا يبقى سائبا بغير متعلق ، وهو غير جائز في اللغة ، فصار تقديره كما ذكر ، الفقه : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية الصادرة أو الحاصلة عن أدلتها ، لأنا نعلم بدلالة العقل أن الأحكام تصدر وتحصل عن الأدلة ، عند نظر المستدل فيها ، طالبا ليعرف الأحكام منها ، فقدرنا لانتظام الكلام ما دل عليه سياقه ، وهذه قاعدة كلية في جميع الكلام من الكتاب والسنة والشعر وغيره ، وهو أن الكلام إذا تضمن حذفا أو إضمارا ، قدر فيه ما دل عليه السياق ، وموضع بسطه بأمثلته " كتاب المجاز " لابن عبد السلام .

                قوله : " عن أدلتها التفصيلية ، احترازا من الأحكام الحاصلة عن أدلة إجمالية " . قد علم معنى التفصيل والإجمال مما سبق ، وسيأتي في باب المجمل والمبين إن شاء الله تعالى ، فلو قال : الفقه : هو العلم بالأحكام الفرعية الصادرة عن أدلتها بالاستدلال ، لدخل فيه ما كان من الأحكام الشرعية عن أدلة إجمالية بالنسبة إلى أدلة الفقه كقولنا : الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة ، لأنها أحكام شرعية ، حاصلة عن الأدلة بالاستدلال ، ومع ذلك ليست فقها ، بل هي أصول فقه .

                ولقائل أن يقول : هذا لا يصح ، لأن بقوله : الشرعية الفرعية ، خرجت هذه الأحكام عن أن يتناولها الحد ، لأنها وإن كانت أحكاما شرعية من جهة أن الشرع أوجب تعلمها ، ليعلم ما يبنى عليها من مسائل الفقه ، لكنها ليست فرعية ، بل هي أصولية .

                وقد يجاب عنه بأن أحكام أصول الفقه هي أصولية من وجه ، فروعية من وجه ، [ ص: 142 ] وذلك لأن العلم الشرعي المقصود لذاته ، إما متعلق بالعقائد القلبية ، وهو علم أصول الدين ، أو متعلق بالأفعال البدنية ، وهو علم الفقه ، ووقع علم أصول الفقه واسطة بينهما ، فهو يستمد من أصول الدين ، ويمد فروع الفقه ، ولذلك كان من مواده علم الكلام ، وهو أصول الدين ، وتصور فروع الأحكام لتمكن الحكم عليها بنفي أو إثبات عند ضرب الأمثلة ، وحينئذ لو لم يقل : عن أدلتها التفصيلية ، لدخلت الأحكام المذكورة من أصول الفقه ، لا من جهة كونها أصولا للفقه ، بل من جهة كونها فروعا لأصول الدين ، فبالتفصيلية خرجت عن الدخول في حد الفقه من كل وجه ، فهذا هو الجواب عن السؤال المذكور ، وهو قوي .

                وأحسب أني وهمت في قولي : " الحاصلة عن أدلتها التفصيلية " احترازا عما ذكرت ، من أن الإجماع ونحوه حجة ، لأن مسائل كل علم وأحكامه ، حاصلة عن أدلة تفصيلية بالنسبة إلى ذلك العلم ، فيكون الإجماع حجة حكما حصل عن دليل تفصيلي بالنسبة إلى أصول الفقه ، وسيأتي مثال هذا عن قريب إن شاء الله تعالى .

                والمثال الصحيح لما حصل من الأحكام عن أدلة إجمالية ، ووقع الاحتراز بالتفصيلية عنه ، هو ما يستعمل في فن الخلاف ، نحو ثبت الحكم بالمقتضي وانتفى بوجود النافي ، فإن هذه قواعد كلية إجمالية تستعمل في غالب الأحكام ، إذ يقال مثلا : وجوب النية في الطهارة ، حكم ثبت بالمقتضي ، وهو تمييز العبادة عن العادة ، ويقول الحنفي : عدم وجوبه والاقتصار على مسنونيته ، حكم ثبت بالمقتضي ، وهو أن الوضوء مفتاح الصلاة ، وذلك متحقق بدون النية . [ ص: 143 ]

                ويقال : سقوط القصاص عن المسلم القاتل للذمي ، حكم ثبت لوجود مقتضيه ، وهو شرف المسلم وصيانته ، عن أن يجعل الكافر كفئا له ، ويقال : قتل المسلم بالذمي ، حكم انتفى بوجود نافيه ، وهو تحقق التفاوت بينهما ، أو بانتفاء شرطه ، وهو المكافأة ، ويقول الحنفي : هو حكم ثبت بوجود مقتضيه ، وهو عصمة الإسلام المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : إذا أدوا الجزية ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا .

                وغالب مسائل الفروع يمكن إثباتها بهذين الطريقين ونحوهما ، فهي أدلة إجمالية بالنسبة إلى كل مسألة .

                واعلم أن المطلوب ، إما إثبات الحكم ، فهو بالدليل المثبت ، أو نفيه فهو بالدليل النافي ، أو بانتفاء الدليل المثبت ، أو بوجود المانع ، أو بانتفاء الشرط ، فهذه أربع قواعد ضابطة لمجاري الأحكام على تعدد جزئياتها وكثرة مسائلها .




                الخدمات العلمية