الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 155 ]

                وأورد عليه : أن الأحكام الفرعية مظنونة لا معلومة ، وأن قوله : التفصيلية ، لا فائدة له ، إذ كل دليل في فن ، فهو تفصيلي بالنسبة إليه ، لوجوب تطابق الدليل والمدلول . وأن الأحكام ، إن أريد بها البعض ، دخل المقلد لعلمه ببعض الأحكام وليس فقيها ، وإن أريد جميع الأحكام ، لم يوجد فقه ولا فقيه ، إذ جميعها لا يحيط بها بشر ، لأن الأئمة سئلوا فقالوا : لا ندري .

                وأجيب عن الأول : بأن الحكم معلوم ، والظن في طريقه ، وبيانه أن الفقيه إذا غلب على ظنه أن الحكم كذا ، علم ذلك قطعا بحصول ذلك الظن ، وبوجوب العمل عليه بمقتضاه ، بناء على ما ثبت من أن الظن موجب للعمل .

                واعلم أن هذا يقتضي أن تقدير الكلام ، العلم بوجوب العمل بالأحكام الشرعية ، أو العلم بحصول ظن الأحكام إلى آخره . وفيه تعسف لا يليق بالتعريفات . وقيل : المراد بالعلم الظن مجازا ، وهو أيضا لا يليق .

                وعن الثالث : بأن المراد بعض الأحكام بأدلتها أو أماراتها . والمقلد لا يعلمها كذلك . أو بأن المراد جميعها بالقوة القريبة من الفعل ، أي تهيؤه للعلم بالجميع ، لأهليته للاجتهاد ، ولا يلزم منه علمه بجميعها بالفعل ، فلا يضر قول الأئمة : لا ندري ، مع تمكنهم من علم ذلك بالاجتهاد قريبا .

                ولو قيل : ظن جملة من الأحكام الشرعية الفرعية ، باستنباطها من أدلة تفصيلية ، لحصل المقصود وخف الإشكال .

                التالي السابق


                قوله : " وأورد عليه " إلى آخره . أي : وأورد على حد الفقه بما ذكرناه أسئلة ، ومعنى إيراد السؤال على الكلام : معارضته بما يناقضه ويبطله من جهة الطرد ، أو العكس أو غير ذلك .

                والأسئلة المذكورة في المختصر ثلاثة :

                أحدها : " أن الأحكام الفرعية مظنونة لا معلومة " . [ ص: 156 ]

                وتقرير هذا السؤال ، أنكم قد عرفتم الفقه : بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية . والعلم : هو الحكم الجازم المطابق ، والأحكام الفرعية ، أو غالبها ، مظنونة لا معلومة ، والفرق بين المعلوم والمظنون ، أن المعلوم لا يحتمل النقيض ، كالبديهيات والتواتريات ، والمظنون يحتمله ، كقولنا : جلد الميتة لا يطهر بالدباغ ، ولا تزول النجاسة بمائع غير الماء ، فإن هذا وإن اعتقدنا ظهوره ، فخلافه محتمل ، وحينئذ لا يكون الحد المذكور جامعا ، فتخرج غالب الأحكام الفرعية عن كونها فقها .

                السؤال الثاني : إن قولكم : عن أدلتها التفصيلية ، لا فائدة له ، لأن كل دليل في فن من فنون العلم ، فهو تفصيلي بالنسبة إلى ذلك الفن ، لوجوب تطابق الدليل والمدلول : أي : يجب أن يكونا متطابقين ، أي : أحدهما طبق الآخر ، أي مساو له في العموم والخصوص ، ولا يعترض على هذا ، بجواز كون الفتيا أعم من السؤال ، نحو قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ، فأجاب عن السؤال عن حكم بالجواب عن حكمين ، ولا بما أجازه بعض النظار ، من جواز كون الجواب أخص ، كعكس الحكم في هذا الحديث ، وهو ما لو سئل عن التوضؤ بماء البحر وأكل ميتته ، فقال : هو الطهور ماؤه فحسب ، أو هو الحل ميتته فقط ، وكما لو قال السائل : هل يجوز التطوع في أوقات النهي ؟ فيقول المجيب : يجوز فعل ذوات الأسباب ، ونحو ذلك ، لأن دليل كل حكم ما يثبت به مساويا له ، وما خرج عن محل السؤال بعموم أو خصوص ، ليس دليلا ولا بعضا من الدليل المسؤول عنه ، فالدليل في الحديث ، هو قوله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه ، وهو مطابق لقولهم : أنتوضأ بماء البحر ؟ أما قوله : الحل ميتته فهو خارج عن محل السؤال [ ص: 157 ] على جهة ابتداء شرع هذا الحكم .

                السؤال الثالث : قولكم : الفقه : العلم بالأحكام ، إن أردتم به بعض الأحكام ، دخل المقلد في الفقه ، لأن كثيرا من المقلدين يعلم بعض الأحكام ، مع أنه ليس بفقيه ، فيكون الحد المذكور غير مانع ، وإن أردتم العلم بجميع الأحكام ، لم يكن الحد جامعها ، بل لم يوجد فقه ولا فقيه ، إذ جميع الأحكام لا يحيط بها بشر ، لأن الأئمة الأربعة وغيرهم سئلوا عن بعض الأحكام ، فقالوا : لا ندري ، كما حكي عن مالك أنه أجاب عن ستة عشر حكما من ثمانية وأربعين ، وقال في الباقي : لا أدري . وحكي عنه وعن غيره أنه قال : جنة العالم لا أدري ، فإذا أخطأها ، أصيبت مقاتله . والجنة : بضم الجيم السترة ، وقول : لا أدري في كلام أحمد كثير جدا .

                قوله : " وأجيب عن الأول " ، هذا شروع في الجواب عن الأسئلة المذكورة على ترتيبها أول فأول .

                وهذه طريقة المتأخرين يوردون الأسئلة ثم يوردون أجوبتها مرتبة عليها ، وطريقة المتقدمين يذكرون جواب كل سؤال عقيبه ، وهذه أيسر على الفهم ، وفي كلا الطريقين حكمة ، وأنا سلكت في هذا المختصر غالبا الطريقة الأولى ، لأنها أعون على التحقيق والاختصار .

                إذا عرفت هذا ، فقد أجيب عن السؤال الأول ، وهو أن الفقه من باب الظنون ، فيخرج عن التعريف بالعلم ، بأن الحكم معلوم والظن في طريقه .

                وبيانه : أن الفقيه إذا غلب على ظنه أن الحكم كذا ، علم قطعا بحصول ذلك الظن ، لأنه أمر وجداني ، كالصحة والسقم واللذة والألم ، يقطع الإنسان بوجود ذلك من نفسه ، وعلم قطعا بوجوب العمل عليه بمقتضى ذلك الظن ، بناء على ما ثبت [ ص: 158 ] من أن الظن موجب للعمل ، أي : إذا غلب على ظن المجتهد حكم ، وجب عليه العمل والفتيا إذا سئلها بذلك الحكم .

                ودليل أن الظن يوجب العمل : الإجماع ، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكامه المبنية على الظنون ، ولذلك قال : إنكم لتختصمون إلي ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من صاحبه ، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع الحديث . وقوله : البينة على المدعي واليمين على من أنكر وإنما يفيد ذلك الظن ، ونحو ذلك مما يكثر . ومن جهة العقل ، أن غالب أدلة الشرع أمارات لا تفيد إلا الظن ، فلو لم يجب العمل بالظن ، لبطلت أكثر أحكام الشرع ، أو لزم المكلف أن لا يعمل إلا بالقطع ، مع أن دليل الشرع لا يفيده ، وهو تكليف ما لا يطاق ، وهو وإن كان [ ص: 159 ] جائزا ، لكنه غير واقع في الفروع .

                وهذا هو جواب الإمام فخر الدين في " المحصول " ، ولفظه : فإن قلت : الفقه من باب الظنون ، فكيف جعلته علما ؟ قلت : المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم ، قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه ، فالحكم معلوم قطعا ، والظن وقع في طريقه . انتهى كلامه .

                ومثاله ، قولنا : الخمر محرم بعلة الإسكار ، وهي مناط الحكم ، والنبيذ يشارك الخمر في العلة ، فغلب بذلك على ظننا تحريم النبيذ ، وعلمنا بالإجماع وجوب تحريم الخمر واجتنابه ، بمقتضى هذا الظن ، فالحكم المطلوب ، هو وجوب اجتنابها ، وهو مقطوع به ، وإنما وقع الظن في طريق التوصل إلى معرفة هذا الوجوب ، وهو قولنا : النبيذ يشارك الخمر في الإسكار ، الذي هو علة تحريم الخمر ، وهو مناط الحكم ، وإذا شاركه في مناط الحكم ، وجب القول بتحريمه .

                فهذا قياس توصلنا به إلى حصول الظن بتحريم النبيذ ، وهو قياس ظني ، فلما حصل لنا الظن من القياس المذكور ، حكمنا بالإجماع والعقل ، على ما قررناه من وجوب القول بالتحريم ، ومن المعلوم أن القياس الشرعي ظني ، وأن الإجماع قاطع ، فالإجماع القاطع أوجب العمل بالظن الحاصل عن القياس الذي هو طريق إلى العلم بالوجوب .

                وقال ابن الصيقل في جواب هذا السؤال : الظنون ليست فقها ، وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون .

                وقد أكثرت في هذا المكان ، لأنه مما يستشكل فهمه ، فقصدت بالإكثار فيه [ ص: 160 ] إيضاحه .

                قوله : " واعلم أن هذا يقتضي " . إلى آخره ، هذه صورة مناقشة على حد الفقه المذكور ، وتقريرها : أن ما ذكرناه من الجواب عن السؤال المذكور يقتضي أن تقدير لفظ الحد هكذا : الفقه هو العلم بوجوب العمل بالأحكام الشرعية ، أو العلم بحصول الظن بوجوب العمل بالأحكام ، أو العلم بحصول ظن الأحكام إلى آخره ، أي إلى آخر الحد ، يعني العلم بحصول ظن الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال ، لأنه قد تقرر في جوابنا عن السؤال المذكور ، أن المراد بقولنا : الفقه : العلم بالأحكام ، أنه إذا غلب على ظننا حكم ، علمنا بالإجماع وجوب العمل به ، فصار بالضرورة تقدير الكلام في الحد : أن الفقه هو العلم بوجوب العمل بالأحكام الشرعية الحاصلة عن الطرق الظنية ، وفيه تعسف لا يليق بالتعريفات - والتعسف والعسف والاعتساف : الأخذ على غير الطريق - ووجه التعسف في ذلك كثرة الحذف والإضمار في الحد ، والحذف يقتضي إبهام المعنى وخفاءه ، والحد يقتضي كشفه وإظهاره ، فيتنافيان .

                قوله : " وقيل : المراد بالعلم الظن مجازا " . هذا صورة اعتذار عن الحد المذكور ، وتمشية له ، ودفع للسؤال الأول عنه .

                وتقريره : أن المراد بقولنا : هو العلم بالأحكام ، الفقه هو ظن الأحكام ، [ ص: 161 ] فلا يرد قولهم : الفقه من باب الظنون ، فكيف يسمونه علما ؟ لأن مرادنا بالعلم الظن مجازا ، وذلك لأن بين العلم والظن قدرا مشتركا ، وهو الرجحان ، لأن العلم هو حكم جازم ، والظن حكم راجح غير جازم ، وهذا الرجحان المشترك صحح إطلاق العلم وإرادة الظن مجازا ، وهو العلاقة المجوزة ، كما سيأتي في اللغات إن شاء الله تعالى .

                قال : " وهو أيضا لا يليق " لأن الحدود يجب أن يجتنب فيها الإبهام ومظنته ، كاللفظ المجمل والمجاز والغريب ، خصوصا إذا لم يكن المجاز واضحا ، وهو فيما نحن فيه كذلك ، فإن أحدا لم يعلم أن مرادكم بالعلم هاهنا الظن ، حتى فسرتموه أنتم وقلتم : أردنا به الظن ، وإنما فسرتموه بذلك فرارا من السؤال المذكور ، وفي ذلك أيضا محذور لفظي ، وهو أنه إذا فسر العلم بالظن ، وصيغة الحد بحالها ، صار التقدير : الفقه ، هو الظن بالأحكام ، وهو عبارة قبيحة ، لأن ظننت يتعدى بنفسه ، نحو ظننت الأمر ، ولا يقال ظننت بالأمر ، بخلاف علمت ، لأنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر ، نحو علمت الشيء وعلمت بالشيء ، فلذلك جاز أن يقال : العلم بالأحكام ، ولم يجز الظن بالأحكام ، وإن غيرت صيغة الحد فقيل : الفقه ، ظن الأحكام ، أفضى إلى التجوز فيها وإسقاط بعض حروفها ، وفيه خبط عظيم ، ثم يخرج منه الأحكام المعلومة ; لأنها ليست مظنونة .

                تنبيه : قول القائل : هذا لا يليق ، وهذا ليس بلائق ، معناه : لا يماس ولا يلاصق ولا يعلق ، قال الجوهري : ما لاقت المرأة عند زوجها ، أي : ما ألصقت بقلبه ، وهذا الأمر لا يليق بك ، أي لا يعلق بك ، وفلان ما يليق درهما من جوده ، أي ما يمسكه ، ولاق به فلان : لاذ به . [ ص: 162 ]

                قلت : والمادة راجعة إلى هذا المعنى ، وهو قريب من الاستعمال الاصطلاحي ، إذ معنى لا يليق : لا يناسب .

                وأجاب القرافي عن السؤال المذكور بجواب التزم فيه أن الأحكام الشرعية معلومة - وظاهره الغلط أو المغالطة - وقرره من وجهين :

                أحدهما : أن كل حكم شرعي فهو ثابت بالإجماع ، وكل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم ، فكل حكم شرعي معلوم .

                وإنما قلنا : إن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع ، لأن الحكم إما متفق عليه ، فهو ثابت بالإجماع ، أو مختلف فيه ، وقد انعقد الإجماع على أن كل مجتهد غلب على ظنه حكم شرعي فهو حكم الله في حقه وحق من قلده ، فقد صارت الأحكام في مواضع الخلاف ثابتة بالإجماع عند الظنون ، فكل حكم شرعي ثابت بالإجماع .

                وأما أن ما ثبت بالإجماع معلوم ، فبناء على عصمة الإجماع .

                الوجه الثاني : قال : كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين ، وكل ما ثبت بمقدمتين قطعيتين ، فهو معلوم ، فكل حكم شرعي معلوم .

                وفرض الكلام في حكم بتقرير يطرد في كل حكم ، وهو أن وجوب التدليك في الطهارات مظنون لمالك قطعا عملا بالوجدان ، وكل ما ظنه مالك ، فهو حكم الله قطعا عملا بالإجماع ، فوجب أن التدليك حكم الله قطعا .

                وأما أن ما ثبت بمقدمتين قطعيتين معلوم ، فهو ظاهر . [ ص: 163 ]

                قلت : ووجه الخلل في هذا التقرير ، أما على الوجه الأول ، فقوله : كل مجتهد غلب على ظنه حكم ، فهو حكم الله في حقه .

                قلنا : نعم ، لكن نحن في تعريف الفقه من حيث هو فقه ، لا من حيث هو فقه مجتهد خاص ، إذ ذلك يصير إثباتا للمطلوب العام بالتقرير الخاص ، وهو لا يصح .

                ثم قوله : فقد صارت الأحكام في مواضع الخلاف ثابتة بالإجماع .

                إن أراد بهذا الكلام عمومه ، فهو تناقض ظاهر ، إذ لو كان كذلك ، لما اختلف العلماء في حكم ، وإن أراد أنها ثابتة بالإجماع عند مجتهد خاص ، وهو من حصل له ظن تلك الأحكام ، رجع الأمر إلى ما قلناه من تقرير الدعوى العامة بالطريقة الخاصة .

                وأما بيان الخلل في الوجه الثاني ، فبنحو ذلك أيضا ، وهو أن قوله : وجوب التدليك مظنون لمالك ، فيكون حكم الله قطعا .

                إن أراد به حكم الله قطعا في حق كل مجتهد ، فهو باطل ، لأن بقية الأئمة صرحوا بخلافه .

                وإن أراد به حكم الله في حق مالك ، فصحيح ، لكن نحن كلامنا في تعريف الفقه المطلق بالنسبة إلى كل مجتهد في الشريعة ، فكيف يثبت ذلك بفرض الكلام في فقه مالك أو غيره بخصوصه .

                ثم لو قال الشفعوي : عدم وجوب التدليك مظنون للشافعي عملا بالوجدان ، فيكون حكم الله قطعا في حقه ، عملا بالإجماع ، فإن أريد بالقطع فيما قرره القطع العام ، تناقصت القطعيات ، لأن هذا يقطع بالوجوب ، وهذا بعدمه ، وذلك [ ص: 164 ] محال .

                وإن أراد القطع الخاص في حق كل إمام بحسب مقتضى اجتهاده ، رجعنا إلى تقرير الدعوى العامة بالطريقة الخاصة .

                فهو كمن يقول : كل حيوان ضحاك ، فإذا أبطل عليه بأكثر الحيوانات ، قال : أنا أردت كل حيوان ناطق ضحاك ، فيرجع حاصل الأمر إلى تخصيص الدعوى ، وهو غير مسموع .

                نعم لو قال : فقه مالك معلوم ، أو الأحكام عند مالك معلومة ، ثم سلك في تقريره الطريقة المذكورة ، لاستقام له ، لأنه تقرير خاص بخاص .

                أما ما ذكره تقريرا ، لكون أحكام الفقه المطلق معلومة ، فتقريره في فرضه الخاص ، وجوب التدليك عند مالك معلوم قطعا ، فيكون كذلك عند أبي حنيفة والشافعي وغيرهما ، وهو كما تراه .

                قوله : " وعن الثالث " ، أي : والجواب عن السؤال الثالث ، وهو قولكم : إن أريد أن الفقه العلم ببعض الأحكام ، دخل فيه المقلد ، وإن أريد جميع الأحكام ، لم يوجد فقه ولا فقيه .

                وجوابه : أن لنا التزام كل واحد من القسمين ، فإن التزمنا أن المراد العلم ببعض الأحكام ، فالمراد العلم بها بأدلتها وأماراتها ووجه استفادتها منها ، والمقلد لا يعلم بعض الأحكام كذلك ، فلا يدخل في الحد ، فيكون مانعا . وإن التزمنا أن المراد العلم بجميع الأحكام ، فالمراد العلم بجميعها بالقوة القريبة من الفعل ، [ ص: 165 ] والمراد بذلك تهيؤه ، يعني تهيؤ المجتهد للعلم بالجميع لأهليته للاجتهاد ، لما عنده من الاستعداد بمعرفة أدلة الأحكام ، ووجوه دلالتها ، وكيفية اقتباس الأحكام منها ، وذلك هو أصول الفقه .

                وحاصل هذا الجواب ، أنه ليس المعتبر أن يكون عالما بجميع الأحكام بالفعل ، أعني يستحضرها في الحال ، بل بعضها بالفعل والاستحضار ، وبعضها بالقوة ، بمعنى أنه يمكنه معرفتها بعرضها على أدلة الشرع التي قد استعد بمعرفتها لذلك ، وهو القوة القريبة من الفعل ، وحينئذ لا يلزم من العلم بها العلم بجميعها بالفعل ، فلا يضر قول الأئمة : لا ندري في جواب ما سئلوا عنه من الأحكام ، مع تمكنهم من علم ذلك بالاجتهاد قريبا ، أي : على قرب من الزمان . بخلاف المقلد ، فإنه لا يمكنه معرفة حكم لا يستحضره قريبا ولا بعيدا ، وهذا شرح قوله :

                " وعن الثالث بأن المراد بعض الأحكام إلى آخره " ، ورجع حاصله إلى الأحكام بأدلتها أو أماراتها ، أو إلى تخصيص العلم بما كان بالفعل أو القوة القريبة .

                قلت : فقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثالث .

                وأما الثاني : وهو أن قوله : عن أدلتها " التفصيلية لا فائدة له " لما سبق تقريره لم أجب عنه في المختصر ، لأنه لم يخطر لي عنه حين الاختصار جواب .

                والجواب عنه الآن : أنه إنما ذكر على جهة التبيين لا على جهة التقييد ، أي : لم تقيد الأدلة بالتفصيلية ، اعتقادا بأن بعض العلوم تكون أدلته بالنسبة إليه غير [ ص: 166 ] تفصيلية ، بل أردنا تبيين أن أدلة هذا العلم تفصيلية ، ولا يلزم من ذلك نفي التفصيل عن أدلة غيره ولا إثباته .

                قوله : " ولو قيل : ظن جملة " أي : لو قيل : الفقه : " ظن جملة من الأحكام الشرعية الفرعية ، باستنباطها من أدلة تفصيلية ، لحصل المقصود " يعني مقصود الحد الأول ، أو مقصود حد الفقه ، إذ لا تفاوت بينهما ، " وخف الإشكال " ، لأن الإشكال الذي ورد على لفظ العلم في الحد الأول لا يرد هاهنا .

                وكذلك السؤال الوارد على لفظ " الأحكام " ، هل المراد بعضها أو جميعها ؟ ولا يرد أيضا ، لقولنا : " ظن جملة من الأحكام " ، وقلت : خف الإشكال ، ولم أقل : زال الإشكال ، لأنه يرد عليه مع ذلك أن شأن الحد التحقيق . وقولنا : " ظن جملة من الأحكام " ليس تحقيقا ، بل الجملة مجهولة الكمية ، ولذلك قيدها الآمدي في " المنتهى " بقوله : العلم بجملة غالبة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال .

                وفيه أيضا إجمال ، لأن غلبة هذه الجملة لا يعلم حدها ، ولذلك قال بعض المتأخرين : ظن جملة غالبا عرفا ، وأخبرني من أثق به عن الشرمساحي - وأظن أني رأيته في كتابه - أنه رام التخلص عن هذا الإشكال بقوله : ظن جملة من الأحكام الشرعية ، يخرج بها عن عداد العامة في العرف ، وهو راجع إلى ما قبله .




                الخدمات العلمية