الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 252 ] المسألة الثانية عشرة

              كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما ، أو أكثريا ، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا ، أو في وقت ما ، أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام .

              أحدها : أن يكون معمولا به دائما ، أو أكثريا ، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا ، أو ندبا ، أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله : في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل ، والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع ، وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة ، وبينها - عليه الصلاة والسلام - بقوله ، أو فعله ، أو إقراره ، ووقع فعله ، أو فعل صحابته معه ، أو بعده على وفق ذلك دائما ، أو أكثريا ، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه ، فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية ، فلا معنى للإعادة .

              والثاني : أن لا يقع العمل به إلا قليلا ، أو في وقت من الأوقات ، أو حال [ ص: 253 ] من الأحوال ، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما ، أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه ، وفي العمل على وفقه ، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر ، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي ، أو لغير معنى شرعي ، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي ، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به ، وإذا كان كذلك ، فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه ، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة ، فلا بد من تحري ما تحروا ، وموافقة ما داوموا عليه .

              وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به [ ص: 254 ] يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير ، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة ، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول : في المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه; إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك ، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة فكذلك ما نحن فيه .

              وإلى هذا ، فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في أنفسها ، وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ، ومن ذلك في كتاب الأحكام ، وما بعده ، فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين .

              أحدهما : أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت ، [ ص: 255 ] أو أوقات عينت ، أو نحو ذلك .

              كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين ، وبيان رسول الله [ ص: 256 ] صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر الوقت الاختياري الذي لا يتعدى ، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر ، وأشباه ذلك .

              [ ص: 257 ] وكذلك قوله : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله - عليه الصلاة والسلام - : أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه ، وإن لم يصح فالأمر [ ص: 258 ] واضح ، وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان يفعل يقتضي الكثرة [ ص: 259 ] بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال : بهذا أمرت ، وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة ، وهو على المنبر أية ساعة هذه ، وأشباهه .

              وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم ترك ذلك [ ص: 260 ] مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه .

              وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها .

              [ ص: 261 ] وفي رواية : وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل ، وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

              وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ، ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركتها .

              فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى ، [ ص: 262 ] فلا حرج على من فعلها .

              ونظير ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يواصل الصيام ، ثم نهى عن الوصال وفهم الصحابة من ذلك عائشة ، وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم ، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات .

              وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان ، وترك القليل ، أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد ، وما أشبهه ، فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 263 ] ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك ، وأما غيره فكذلك أيضا ، ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة .

              فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته ، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم ، فإن هؤلاء منتصبون; لأن يقتدى بهم فيما يفعلون ، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب ، وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع ، وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان ، فلا بأس ، وسنتهم سنة ماضية ، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ، ويتحرونه أيضا فكان على قولهم ، وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن ، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل [ ص: 264 ] تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم ، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة; لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة .

              وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها ، وإنما داوم من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها ، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء .

              ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق ، بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ، ونحوها ، وما سوى ذلك ، فقد بين - عليه الصلاة والسلام - أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل من [ ص: 265 ] صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهره فيهم ولا أكثر من ذلك ، بل كان عامة عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما انضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح ، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى ، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى ، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة [ ص: 266 ] في الرجلين والثلاثة ، ونحو ذلك ، وحيث لا يكون مظنة اشتهار ، وما سوى ذلك فهو يكرهه .

              وأما مسألة الوصال ، فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال : بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع ، وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان الأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة ، وما واظبوا عليه ، وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الضرب .

              [ ص: 267 ] والضرب الثاني : ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه .

              منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه ، أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة ، وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له ، وتعظيما ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس ، فقال : إن تقوموا [ ص: 268 ] نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه ، وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم ، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم [ ص: 269 ] له ، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود ، أو للإعانة على معنى من المعاني ، أو لغير ذلك مما يحتمل .

              وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة ، وبراءة ذمة باتفاق ، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر ، وذلك لا يقوى قوة معارضه .

              ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة ، فإن مالكا قال له : كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا ، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين . فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي - عليه الصلاة والسلام - أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه .

              وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا ، أو سلمنا صحة ما روي فيه ، فإنه لم يقع [ ص: 270 ] تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته .

              ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك ؛ إذ نزلت توبته ، فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم .

              ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث; إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك ، وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب [ ص: 271 ] أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في قوة المستمر .

              وقد قيل لمالك : إن قوما يقولون إن التشهد فرض ، فقال : أما كان أحد يعرف التشهد ؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم .

              وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك : وما حاجتك إلى ذلك ؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ، ثم قال له مالك : وكيف الأذان عندكم ؟ فذكر مذهبهم فيه ، فقال من أين لكم هذا ؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم ، فقال له مالك : ما أدري ما أذان يوم ؟ وما صلاة يوم ؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولده من بعده يؤذنون في حياته ، وعند قبره ، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده .

              فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل ، وثبت مستمرا أثبت في الاتباع ، وأولى أن يرجع إليه .

              وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه ، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل : له إن أبا بكر الصديق [ ص: 272 ] فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ، ثم قال : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد ؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ، فإنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه .

              هذا ما قال ، وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان ، وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير .

              ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه ، أو بصاحبه الذي عمل به ، أو خاصا بحال من الأحوال ، فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه - عليه الصلاة والسلام - على ناصيته ، وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض ، وكذلك نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن ادخار لحوم الأضاحي [ ص: 273 ] بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا ، وهو قوله : إنما نهيتكم لأجل الدافة .

              ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد ، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - عليه الصلاة والسلام - : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه .

              [ ص: 274 ] فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما دواما ، فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه ، وهذا خاص بزمانه; إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي ، وقد انقطع بعده ، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه .

              وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده ، فإذا العمل بمثله أشد غررا; إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته .

              ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه; إذ كان في زمانه - عليه الصلاة والسلام - ولم يعلم به فيجيزه ، أو يمنعه; لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا ، وهو صائم في رمضان فقيل له : أتأكل البرد ، وأنت صائم ، فقال : " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا ، وإنه ليس بطعام ولا شراب " .

              قال الطحاوي : ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 275 ] عليه فيعلمه الواجب عليه فيه . قال : وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير ذلك عمر شيئا; إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره .

              فكذلك ما روي عن أبي طلحة قال : والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع قال : كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه ، فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - برأيك ، فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به ، فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب ، وأبي أيوب ورفاعة بن رافع فالتفت إلي عمر فقال ما يقول هذا الفتى ، فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله [ ص: 276 ] صلى الله عليه وسلم ، ثم لا نغتسل قال : أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقلت : لا ، ثم قال في آخر الحديث : لئن أخبرت بأحد يفعله ، ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة .

              فهذا أيضا من ذلك القبيل ، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك .

              ومنها إمكان أن يكون عمل به قليلا ، ثم نسخ فترك العمل به جملة ، فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام .

              ومثاله حديث الصيام عن الميت ، فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة ، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس ، وهما أول من [ ص: 277 ] خالفاه فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت ، وعليها صوم ، فقالت : أطعموا عنها . وعن ابن عباس أنه قال : لا يصوم أحد عن أحد .

              قال مالك : ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه .

              [ ص: 278 ] فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ، ومن يليهم ، وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله .

              وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل ، وقيل له : أتسجد أنت فيه فقال : لا ، وقيل له : إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه ، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه ، وإنما هو حديث من حديث الناس ، وأعظم من ذلك القرآن يقول الله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فالقرآن أعظم خطرا ، وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث .

              وهذا مما لم يجتمع عليه ، وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر; إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              [ ص: 279 ] وروي عن ابن شهاب أنه قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه ، وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله .

              وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره .

              وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا ، وعند الحاجة ، ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل ، أو عدم صحة في الدليل .

              [ ص: 280 ] أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة ، أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور :

              أحدها : المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .

              والثاني : استلزام ترك ما داوموا عليه; إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه .

              والثالث : أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه; إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد .

              الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان .

              والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى ، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة ; إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ، ومعارض له ولو كان ترك العمل ، فما عمل به [ ص: 281 ] المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل ، أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر ، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .

              ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده; لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه ، أو عدم اعتباره ; لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .

              ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير [ ص: 282 ] في النقل عنهم ، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله ، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 8 ] .

              وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين ، وحاش لله من ذلك .

              ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة ، وذكر الله برفع الأصوات ، وبهيئة الاجتماع بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم الحديث . والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله . . إلخ ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر .

              [ ص: 283 ] وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] الآية ، وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] .

              وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد ، وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب ، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم : دونكم يا بني أرفدة .

              واستدلال كل من اخترع بدعة ، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا ، وغلطوا واتبعوا ما [ ص: 284 ] تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين ، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك ، وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون ، أو حادوا عن فهمها ، وهذا الأخير هو الصواب ; إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة ، وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم ، وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة .

              فيقال لمن استدل بأمثال ذلك : هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين ، أو لم يوجد ؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك ، فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له ، أو جاهلين به أم لا ؟ ولا يسعه أن يقول بهذا ; لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه ، وخرق للإجماع ، وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم ، وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه .

              فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين ، وإذا كان مسكوتا عنه ، ووجد له في الأدلة مساغ ، فلا مخالفة ، إنما [ ص: 285 ] المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده ، وهو البدعة المنكرة قيل له : بل هو مخالف ; لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :

              أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ; لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد .

              والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ، ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ; إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .

              وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء ، وكره أشياء ، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل ، فلا مزيد عليه ، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره .

              [ ص: 286 ] فالحاصل أن الأمر ، أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب ، لكن على وجه آخر ، فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين ، وكفى بذلك مزلة قدم ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية