الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 29 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

أخبرنا الشيخ الإمام الثقة الحافظ سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري رحمه الله تعالى ، قراءة عليه ونحن نسمع ، وذلك في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، في منزله بدار الخلافة عمرها الله قال : أنا الشيخ الفقيه أبو سعد محمد بن محمد المطرز رحمه الله تعالى قراءة عليه في داره بأصبهان وأنا أسمع ، قال : أنا الإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق قراءة عليه قال : [ ص: 30 ] [ ص: 31 ]

مقدمة

الحمد لله المولي النعم الجسام ، ومسدي الآلاء العظام ، الذي ترادفت أياديه السابغة ، وثبتت حججه البالغة بالدلالات الواضحة ، والعلامات اللائحة ، مخترع الملكوت من الأرضين والسماوات ، ومبدع الصنائع المتقنة الواقعة لخلقه بالحركات منهم والسكنات ، والمنشئ لبريته قوامهم وأقواتهم من أنواع النبات وألوان الثمرات ، الظاهر آياته للمؤيدين بالعقل الرصين ، والممدين بالنظر المكين ، الموفقين للتفكر فيما أشهدهم من لطائف التركيب وأعانهم بالنظر في توالي الترتيب ، وتحويل الأعيان المنتقلة من طبقة إلى طبقة ، وصنعة إلى صنعة ، الدال كله على تدبير العالم الحكيم والقادر الرحيم ، القامع لسلطان المبطلين بالآيات الباهرة ، القاطع لطغيان المنكرين بالأدلة الزاهرة ، الذي أزاح علل المكلفين بالرسل ، المؤيدين بالآيات بما أعطوا من المعجزات والبينات ، فقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فألزم الخليقة بهم الحجة ، وأوضح لهم بما بلغوا عنه المحجة ، فحي من حي بما بعثهم عن بينة ، وهلك بمفارقتهم عن بينة ، وصلى الله على [ ص: 32 ] خير مبعوث ختم به الرسالة ، وغنم بالتصديق به النبالة والجلالة ، وقرن اسمه باسمه ، ورفع فكره لذكره ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ما عبد عابد وسجد ساجد .

أما بعد : فقد سألتم - عمر الله بالبصائر طوياتكم ، ونور في المسير إلى وفاقه أوعيتكم ونياتكم - جمع المنتشر من الروايات في النبوة ، والدلائل والمعجزات ، والحقائق ، وخصائص المبعوث محمد صلى الله عليه وسلم بالسناء الساطع ، والشفاء النافع ، الذي استضاء به السعداء ، واشتفى به الشهداء ، واستوصل دونه البعداء ، فاستعنت بالله واستوفقته ، وبه الحول والقوة وهو القوي العزيز .

واعلموا - وفقكم الله - أن الخالق الحكيم أنشأ الخلق مختلفي الصور والجواهر ، متفاوتي الأمزجة والبصائر ، أجزاؤهم في الطبيعة والقوة متفاضلة ، وأخلاقهم في النظر والاعتبار متفاوتة ، فمن معتدل في امتزاجه ، مستغن بصحته عن الأطباء والعقاقير ، ومتوسط في الاعتدال يطيبه القليل من الأباريز ، وساقط رذيل لا يقيمه العزيز من العناصر ، كذلك الأرواح : منهم صاف ذكي ، بالحكمة مشغوف ، وإلى التعرف والتبصر ملهوف ، حريص على ما استبق إليه السعداء . ومنها : روح أكدر بطيء ، عن المعارف والبصائر معصوف ، وعن الآيات والعبر مصروف ، خميص إلى ما استلده البعداء . ومنها : روح متوسط ، حط به عن كمال الصفاء والذكاء ، ونحى به من تلال الكدر والعمى .

فلتفاوت الأشباح والأرواح اختلفت الأقوال والأحوال ، فالمحنو بصافي [ ص: 33 ] الأرواح يحن جوهره دائما إلى صفوة الروحانية الذين هم سكان العلى في السماوات ، والمحنو بكدر الأرواح يميل جوهره دائما إلى مماثلة المسخرة من البهائم والأنعام ، المركبة من الكدر والظلمات ، فإذا اختلفت الأبنية والأمزجة فالمخلوق على أعدل الترتيب وأصفى التركيب من لباب البشر وصباب النشر من ارتاح للتأله والصلاح واهتن للتشمير ، والصلاح مخصوص بالبشارة والنذارة ، مقصود بالنفث والإيماء من الكرام البررة ، ممد بالموهبة الإلاهية الأثرة العلوية ، ويسعد بالقبول منه المتوسط من المقبلين ، ويحجب بالنفور عنه والتكبر عنه العماة من المدبرين ، فأولئك المقصودون هم الدعاة من الأولياء ، والسادة من الرسل والأنبياء .

فالنبوة : سفارة العبد بين الله تعالى وبين الألباب من خليقته ، ولهذا توصف أبدا بالرسالة والبعثة .

وقيل : إن النبوة إزاحة علل ذوي الألباب فيما تقصر عقولهم عنه من مصالح الدارين ، ولهذا يوصف دائما بالحجة والهداية ليزيح بها عللهم على سبيل الهداية والتثقيف .

ومعنى النبي : هو ذو النبأ والخبر ، أي يكون مخبرا عن الله عز وجل بما خصه به من الوحي .

وقيل : إنها مشتقة من " النبوة " التي هي المكان المرتفع عن الأرض ، وهو أن يخص بضرب من الرفعة ، فجعل سفيرا بين الله وبين خلقه ، يعني بذلك وصفه بالشرف والرفعة .

ومن جعل النبوة من الإنباء التي هي الإخبار لم يفرق بين النبوة والرسالة .

ومعنى الرسول : فهو المرسل ، فعول على لفظ مفعل ، وإرساله : أمره إياه بإبلاغ الرسالة والوحي . [ ص: 34 ]

ومعنى الوحي : من الوحا وهو العجلة ، فلما كان الرسول متعجلا لما يفهم ، قيل لذلك التفهم : " وحي " ، وله مراتب ووجوه في القرآن .

وحي إلى الرسول : وهو أن يخاطبه الملك شفاها ، أو يلقي في روعه ، وذلك قوله عز وجل : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء يريد بذلك خطابا يلقي فهمه في قلبه حتى يعيه ويحفظه وما عداه من غير خطاب ، إنما هو ابتداء إعلام وإلهام وتوقيف من غير كلام ولا خطاب كقوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل ، وأوحينا إلى أم موسى وما في معناهما .

ثم إن هذه النبوة التي هي السفارة لا تتم إلا بخصائص أربعة يهبها الله عز وجل لهم ، كما أن إزالة علل العقول لا تتم إلا بالسلامة من آفات أربعة يعصم منها ، فالسفير السعيد بالمواهب الأربعة سليم عن الآفات الأربعة ، والعاقل السليم من الآفات الأربعة ليس بسعيد بالمواهب الأربعة .

فالمواهب الأربعة : أولها : الفضيلة النوعية . وثانيها : الفضيلة الإكرامية . وثالثها : الإمداد بالهداية . ورابعها : التثقيف عند الزلة .

والآفات الأربعة التي يعصم منها السليم من الأولياء . أولها : الكفر بالله عز وجل ، وثانيها : التقول على الله ، وثالثها : الفسق في أوامر الله ، ورابعها : الجهل بأحكام الله .

فمعنى الفضيلة النوعية : أن الأحسن في سير الملوك والأحمد في حكمهم أنهم لا يرسلون مبلغا عنهم إلا الأفضل ، المستقل بأثقال الرسالة ، قد ثقفته خدمته ، وخرجته أيامه ، والعقول تشهد أن مثله مقيضا مرتادا عند المرسل لمثله في الإبلاغ والتأدية عنه ، فالله الحكيم القدير لا يختار للرسالة [ ص: 35 ] إلا المتقدم على المبعوث إليهم ، المزين بكل المناقب ، ولهذا لم يوجد نبي قط به عاهة في بدنه أو اختلاط في عقله ، أو دناءة في نسبه ، أو رداءة في خلقه ، وإليه رجع قوله عز وجل : الله أعلم حيث يجعل رسالته .

ومعنى الفضيلة الإكرامية : أن الملوك متى أرسلوا رسولا اختاروه للوفادة ، أيدوه في حال الإرسال بلطائف وكرامات وزوائد ومعاونات ييسر الخطب عليه فوق ما كان مكنه منه ، وخوله في ماضي خدمته ، فالله الرؤوف الرحيم إذا أمره للإبلاغ عنه أمده بزوائد تقوي قلبه ، وتشحذ قريحته ، وتمكنه من الأخلاق الحميدة والعزائم القوية ، والحكم المديد ، كما أيد موسى عليه السلام بحل العقدة من لسانه ، وإشراكه هارون في الإرسال ، وهو قوله عز وجل : فأرسله معي ردءا يصدقني فإليه يرجع قوله عز وجل : قد أوتيت سؤلك يا موسى .

ومعنى الإمداد بالهداية : فإن الملوك إذا اختاروا للإبلاغ عنهم من علموا منه الكفاءة والاستغلال بما ولوه فلا يخلونه من كتب منهم إليه تتضمن الرشد والهداية ، علما منهم بأنه مجبول على صنيعة الآدميين . فالله العلي العظيم متى قلد عبدا قلائد الرسالة فحكمته تقضي أن لا يخليه من مواد الإرشاد ، لعلمه أن العلوم المكتسبة لا تنال إلا تعريفا ، ولا تصاب المصالح الكلية إلا توفيقا ، وإليه يرجع قوله عز وجل : كذلك لنثبت به فؤادك ، ولولا أن ثبتناك لقد كدت .

ومعنى التثقيف عند الزلة : فما بعث ملك واحدا يحبب به الرعية إلى طاعة فيرى طبعه مائلا في حال الإبلاغ إلا زجره عند أدنى هفوة بأبلغ [ ص: 36 ] مزجرة ، يثقفه بها صيانة لمحله وحفظا لحراسته واستقامته ، علما منه بأن من ينته عن فلتاته أوشك أن يألفه ويعتاده ، فالله لطيف بعباده ، الوافي لأوليائه بالنصر والتأييد ، لا يعدم وافده وصفيه المرشح لحمل أثقال النبوة التنبيه والتثقيف ، وإليه يرجع قوله تعالى لنوح عليه السلام : فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين وقوله عز وجل لداود عليه السلام : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط وقوله عز وجل لسليمان عليه السلام : وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب وقوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : فاستقم كما أمرت ، لولا كتاب من الله سبق وقوله تعالى : وإن كان كبر عليك إعراضهم .

فهذه الخصائص الأربعة لا تنال بالاكتساب والاجتهاد ، لأنها موهبة إلهية ، وأثرة علوية ، حكمها معلقة بتدبير من له الخلق والأمر ، ولا يظهرها إلا في أخص الأزمنة ، وأحق الأمكنة ، عند إحساس الحاجة الكلية ، وإطباق الدهماء على الضلال من البرية ، وكلها أعلى من أن تفوز به العقول الجزئية ، أو تحصلها المساعي المكتسبة ، وإليه يرجع قوله عز وجل : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء وقوله : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وقوله : فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول . [ ص: 37 ]

واعلموا أن معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يحصرها عدد ، وأشهر من أن ينصرها سند ، فأعظم معجزاته القرآن الذي هو أم المعجزات الذي لا يدفعه الإنكار ولا الجحد ، وقد حرر الكلام فيه وفي مسائله وإبطال طعن الملاحدة والفلاسفة وأصحاب الطبائع المتقدمون من علمائنا وأبنائنا ، فبينوا فساد مقالاتهم ، وبطلان معارضاتهم بما يعارض به أمثالهم من الجائرين عن منهج النبوة ومنار الشريعة ، وكذلك الكلام في الاستدلال على صحة النبوة والرسالة وأن بعثة المرسلين مما لا يستحيل ، وأنه من باب الممكن والمقدور ، وأن إرسال الرسل ليس بواجب على الله عز وجل ، بل هو من الجائز الذي لله تعالى فعله وتركه ، وأن المعجزات أقسام ، منها ما يجوز دخول نوع منها تحت مقدورنا على وجه ، ومنها ما لا يدخل . وذكر الكلام في الفصل بين المعجزة والكرامة ، وأنهما متفقتان في حالة ، ومفترقتان في حالة أخرى ، وذكر أنواع ما يقع به التحدي ، فسمي معجزا ، وذكر الرد على منكري النبوات من برهمي وفلسفي وطبائعي وغيرهم ، سكتنا عن ذلك ، إذ الكلام في ذلك والانفصال عن معارضتهم مسلم إلى أربابه من المتكلمين والنظار ، وقصدنا جمع ما نحن بسبيله ونجبيته من جميع المنتشر من الآبار ، والصحيح والمشهور من مروي الأخبار ، ورتبناه ترتيب من تقدمنا من رواة الآثار والعلماء والفقهاء .

وجعلنا ذلك فصولا ، ذكرناها لتسهل على المتحفظ أنواعه وأقسامه فيكون أجمع لفهمه ، وأقرب من ذهنه ، وأبعد من تحمل الكلفة في طلبه ، وبه الحول والقوة في ذلك وفي كل ما نريده ونقصده .

[ ص: 38 ] [ ص: 39 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية