الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 95 ] مقدمة التفسير للعلامة الزمخشري

                                                                                                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحا، وبالاستعاذة مختتما، وأوحاه على قسمين متشابها ومحكما، وفصله سورا وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات; وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع، وسمات منشئ مخترع، فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم; أنشأه كتابا ساطعا تبيانه، قاطعا برهانه، وحيا ناطقا ببينات وحجج، قرآنا عربيا غير ذي عوج، مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقا لما بين يديه من الكتب السماوية، عجزا باقيا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر من سورة منه ناهض من بلغائهم; على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة، وإلقائهم الشراشر على المعازة والمعارة، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل يرومونه الشطط، إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر; وقد جرد لهم الحجة أولا، والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده، على أن السيف القاضب مخراق لاعب إن لم تمض الحجة حده; فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب.

                                                                                                                                                                                                [ ص: 96 ] والصلاة [والسلام] على خير من أوحي إليه حبيب الله أبي القاسم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ذي اللواء المرفوع في بني لؤي، وذي القرع المنيف في عبد مناف بن قصي ، المثبت بالعصمة، المؤيد بالحكمة، الشادخ الغرة، الواضح التحجيل، النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل ، وعلى آله الأطهار، وخلفائه من الأختان والأصهار، وعلى جميع المهاجرين والأنصار.

                                                                                                                                                                                                اعلم: أن متن كل علم وعمود كل صناعة- طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطا يسيرة، أو تقدم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة، وإنما الذي تباينت فيه الرتب، وتحاكت فيه الركب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عد ألف بواحد - ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم، وإلا واسطتهم وفصهم، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم، عناة في يد التقليد لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم.

                                                                                                                                                                                                ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها - علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب "نظم القرآن" فالفقيه وإن برز علم الأقران في علم الفتاوي والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان من سيبويه ، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه- لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة [ ص: 97 ] الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، دراكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه.

                                                                                                                                                                                                ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلي في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان والتعجب، واستطيروا شوقا إلى منصف يضم أطرافا من ذلك، حتى اجتمعوا إلي مقترحين أن أملي عليهم "الكشف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد، والذي حداني على الاستعفاء على علمي، أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علي واجبة; لأن الخوض فيه كفرض العين ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله، وركاكة رجاله، وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم، فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان، فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة، وكان كلاما مبسوطا، كثير السؤال والجواب، طويل الذيول [والأذناب]، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم، وأن يكون لهم منارا ينتحونه ومثالا يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله والإناخة بحرم الله فتوجهت تلقاء مكة، وجدت في مجتازي بكل بلد من فيه مسكة من أهلها -وقليل ما هم- عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملى، متطلعين إلى إيناسه، حراصا على اقتباسه، فهز ما رأيت من عطفي، وحرك الساكن من نشاطي، فلما حططت الرحل بمكة إذا أنا بالشعبة السنية، من الدوحة الحسنية: الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول الله أبي الحسن علي بن حمزة بن وهاس -أدام الله مجده- وهو النكتة والشامة في بني الحسن مع كثرة محاسنهم وجموم مناقبهم، أعطش الناس كبدا، وألهبهم حشى، وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يحدث نفسه- في مدة غيبتي عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادة بقطع الفيافي وطي المهامه والوفادة علينا بخوارزم ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض، فقلت: قد [ ص: 98 ] ضاقت على المستعفي الحيل، وعيت به العلل، ورأيتني قد أخذت مني السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التي سمتها العرب دقاقة الرقاب، فأخذت في طريقة أخصر من الأولى مع ضمان التكثير من الفوائد، والفحص عن السرائر، ووفق الله وسدد، ففرغ [منه] في مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، وما هي إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت علي من بركات هذا الحرم المعظم، أسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه منه سببا ينجيني، ونورا [لي] على الصراط يسعى بين يدي وبيميني، ونعم المسؤول.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية