الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة قال أصحابنا جميعا رحمهم الله : يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة من الأوليين ، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب ، وقرأ غيرها فقد أساء ، ويجزيه صلاته .

وقال مالك بن أنس : إذا لم يقرأ أم القرآن في الركعتين أعاد وقال الشافعي : أقل ما يجزي فاتحة الكتاب ، فإن ترك منها حرفا وخرج من الصلاة أعاد قال أبو بكر : روى الأعمش عن خيثمة عن عباد بن ربعي ، قال : قال عمر : لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعدا .

وروى ابن علية عن الجريري عن ابن بريدة عن عمران بن حصين ، قال : لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعدا وروى معمر عن أيوب عن أبي العالية ، قال : سألت ابن عباس عن القراءة في كل ركعة ، قال : اقرأ منه ما قل أو كثر وليس من القرآن شيء قليل وروي عن الحسن وإبراهيم والشعبي أن من نسي قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها لم يضر ، وتجزيه .

وروى وكيع عن جرير بن حازم عن الوليد بن يحيى أن جابر بن زيد قام يصلي ذات يوم فقرأ : مدهامتان ثم ركع قال أبو بكر : وما روي عن عمر وعمران بن حصين في أنها لا تجزي إلا بفاتحة الكتاب وآيتين محمول على جواز التمام لا على نفي الأصل ؛ إذ لا خلاف بين الفقهاء في جوازها بقراءة فاتحة الكتاب وحدها .

والدليل على جوازها مع ترك الفاتحة ، وإن كان مسيئا ، قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ومعناه قراءة الفجر في صلاة الفجر ، لاتفاق المسلمين على أنه لا فرض عليه في القراءة وقت صلاة الفجر إلا في الصلاة ؛ والأمر على الإيجاب حتى تقوم دلالة الندب ، فاقتضى الظاهر جوازها بما قرأ فيها من شيء ؛ إذ ليس فيه تخصيص لشيء منه دون غيره .

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن والمراد به القراءة في الصلاة بدلالة قوله تعالى : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى قوله فاقرءوا ما تيسر من القرآن ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل .

وقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ ويدل على أن المراد به جميع الصلاة من فرض ونفل حديث [ ص: 21 ] أبي هريرة ورفاعة بن رافع في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الصلاة حين لم يحسنها فقال له : ثم اقرأ ما تيسر من القرآن .

وأمره بذلك عندنا إنما صدر عن القرآن ؛ لأنا متى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم أمرا يواطئ حكما مذكورا في القرآن وجب أن يحكم بأنه إنما حكم بذلك عن القرآن ، كقطعه السارق وجلده الزاني ونحوها ثم لم يخصص نفلا من فرض فثبت أن مراد الآية عام في الجميع فهذا الخبر يدل على جوازها بغير فاتحة الكتاب من وجهين :

أحدهما : دلالته على أن مراد الآية عام في جميع الصلوات .

والثاني أنه مستقل بنفسه في جوازها بغيرها ، وعلى أن نزول الآية في شأن صلاة الليل لو لم يعاضده الخبر لم يمنع لزوم حكمها في غيرها من الفرائض والنوافل من وجهين :

أحدهما : أنه إذا ثبت ذلك في صلاة الليل فسائر الصلوات مثلها ، بدلالة أن الفرض والنفل لا يختلفان في حكم القراءة ، وأن ما جاز في النفل جاز في الفرض مثله ، كما لا يختلفان في الركوع والسجود وسائر أركان الصلاة فإن قال قائل : هما مختلفان عندك ؛ لأن القراءة في الأخريين غير واجبة عندك في الفرض ، وهي واجبة في النفل إذا صلاها قيل له : هذا يدل على أن النفل آكد في حكم القراءة من الفرض ، فإذا جاز النفل مع ترك فاتحة الكتاب فالفرض أحرى أن يجوز .

والوجه الآخر : أن أحدا لم يفرق بينهما ، ومن أوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب في أحدهما أوجبها في الآخر ، ومن أسقط فرضها في أحدهما أسقطه في الآخر فلما ثبت عندنا بظاهر الآية جواز النفل بغيرها وجب أن يكون كذلك حكم الفرض فإن قال قائل : فما الدلالة على جواز تركها بالآية ؟

قيل له : لأن قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن يقتضي التخيير ، وهو بمنزلة قوله : اقرأ ما شئت ألا ترى أن من قال لرجل : بع عبدي هذا بما تيسر ، أنه مخير له في بيعه له بما رأى .

وإذا ثبت أن الآية تقتضي التخيير لم يجز لنا إسقاطه والاقتصار على شيء معين وهو فاتحة الكتاب ؛ لأن فيه نسخ ما اقتضته الآية من التخيير فإن قال قائل : هو بمنزلة قوله : فما استيسر من الهدي ووجوب الاقتصار به على الإبل والبقر والغنم مع وقوع الاسم على غيرها من سائر ما يهدى ويتصدق به فلم يكن فيه نسخ الآية .

قيل له : إن خياره باق في ذبحه أيها شاء من الأصناف الثلاثة ، فلم يكن فيه رفع حكمها من التخيير ولا نسخه ، وإنما فيه التخصيص ، ونظير ذلك ما لو ورد أثر في قراءة آية دون ما هو أقل منها لم يلزم منه نسخ الآية ؛ لأن خياره باق في أن يقرأ أيها شاء من آي [ ص: 22 ] القرآن فإن قال قائل : قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن يستعمل فيما عدا فاتحة الكتاب ، فلا يكون فيه نسخ لها ، قيل له : لا يجوز ذلك من وجوه :

أحدها : أنه جعل الأمر بالقراءة عبارة عن الصلاة فيها ، فلا يجوز أن تكون عبادة إلا وهي من أركانها التي لا تصح إلا بها .

الثاني : أن ظاهره يقتضي التخيير في جميع ما يقرأ في الصلاة ، فلا يجوز تخصيصه في بعض ما يقرأ فيها دون غيرها .

الثالث : أن قوله : فاقرءوا ما تيسر أمر ، وحقيقته ومقتضاه الواجب ، فلا يجوز صرفه إلى الندب من القراءة دون الواجب منها ، ومما يدل على ما ذكرنا من جهة الأثر ما حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن إسحاق بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمر ، أن رجلا دخل المسجد فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي عليه السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له : ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان يصلي ثم جاء إلى النبي عليه السلام فرد عليه ، ثم قال له : ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال عليه السلام : إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ، ثم يكبر ويحمد الله تعالى ويثني عليه ، ويقرأ بما شاء من القرآن ، ثم يقول : الله أكبر ، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله وذكر الحديث .

وحدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ، أن رجلا دخل المسجد فصلى ، ثم جاء فسلم ، وذكر نحوه ، ثم قال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع وذكر الحديث قال أبو بكر : قال في الحديث الأول : " ثم اقرأ ما شئت " وفي الثاني : " ما تيسر " فخيره في القراءة بما شاء .

ولو كانت قراءة فاتحة الكتاب فرضا لعلمه إياها مع علمه بجهر الرجل بأحكام الصلاة ؛ إذ غير جائز الاقتصار في تعليم الجاهل على بعض فروض الصلاة دون بعض ، فثبت بذلك أن قراءتها ليست بفرض وحدثنا عبد الباقي بن قانع ، قال : حدثنا أحمد بن علي الجزار ، قال : حدثنا عامر بن سيار ، قال : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان حدثنا سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة إلا بقراءة يقرأ فيها فاتحة الكتاب أو غيرها من القرآن . وقد حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا وهب بن بقية عن مخلد عن محمد بن عمرو عن علي بن يحيى بن خلاد عن رفاعة بن رافع بهذه القصة ، [ ص: 23 ] قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ وذكر تمام الحديث ، فذكر فيه قراءة أم القرآن وغيرها ، وهذا غير مخالف للأخبار الأخر ؛ لأنه محمول على أنه يقرأ بما تيسر ؛ إذ غير جائز حمله على تعيين الفرض فيها لما فيه من نسخ التخيير المذكور في غيره .

ومعلوم أن أحد الخبرين غير منسوخ بالآخر ؛ إذ كانا في قصة واحدة فإن قال قائل : لما ذكر في أحد الخبرين التخيير فيما يقرأ ، وذكر في الآخر الأمر بقراءة فاتحة الكتاب من غير تخيير ، وأثبت التخيير فيما عداها بقوله : وبما شاء الله أن يقرأ بعد فاتحة الكتاب ، ثبت بذلك أن التخيير المذكور في الأخبار الأخر إنما هو فيما عدا فاتحة الكتاب ، وأن ترك ذكر فاتحة الكتاب إنما هو إغفال من بعض الرواة ، ولأن في خبرنا زيادة ، وهو الأمر بقراءة فاتحة الكتاب بلا تخيير .

قيل له : غير جائز حمل الخبر الذي فيه التخيير مطلقا على الخبر المذكور فيه فاتحة الكتاب على ما ادعيت ، لإمكان استعمالهما من غير تخصيص ، بل الواجب أن نقول : التخيير المذكور في الخبر المطلق حكمه ثابت في الخبر المقيد بذكر فاتحة الكتاب ، فيكون التخيير عاما في فاتحة الكتاب وغيرها ، كأنه قال : اقرأ بأم القرآن إن شئت وبما سواها ، فيكون في ذلك استعمال زيادة التخيير في فاتحة الكتاب ، دون تخصيصه في بعض القراءة دون بعض ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، قال : حدثنا عيسى عن جعفر بن ميمون البصري ، قال : حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد .

وقوله : لا صلاة إلا بالقرآن يقتضي جوازها بما قرأ به من شيء .

وقوله : ولو بفاتحة الكتاب فما زاد يدل أيضا على جوازها بغيرها لأنه لو كان فرض القراءة متعينا بها لما قال : ولو بفاتحة الكتاب فما زاد ولقال : بفاتحة الكتاب .

ومما يدل على ما ذكرنا حديث ابن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ورواه مالك وابن جريج عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهما في السند على هذا الوجه لا يوهنه ؛ لأنه قد روي أنه قد سمع من أبيه ومن أبي السائب جميعا فلما قال : فهي [ ص: 24 ] خداج والخداج الناقصة ، دل ذلك على جوازها مع النقصان ؛ لأنها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان ؛ لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها ؛ إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء .

ألا ترى أنه لا يقال للناقة إذا حالت فلم تحمل : إنها قد أخدجت ، وإنما يقال : أخدجت وخدجت ، إذا ألقت ولدها ناقص الخلقة أو وضعته لغير تمام في مدة الحمل ؛ فأما ما لم تحمل فلا توصف بالخداج فثبت بذلك جواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب ؛ إذ النقصان غير ناف للأصل ، بل يقتضي ثبوت الأصل حتى يصح وصفها بالنقصان وقد روى أيضا عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة عن النبي عليه السلام قال : كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فأثبتها ناقصة ، وإثبات النقصان يوجب ثبوت الأصل على ما وصفنا .

وقد روي أيضا عن النبي عليه السلام : إن الرجل ليصلي الصلاة يكتب له نصفها خمسها عشرها فلم يبطل جزء بنقصانها فإن قال قائل : قد روى هذا الحديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاة ولم يقرأ فيها شيئا من القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام وهذا الحديث يعارض حديث مالك وابن عيينة في ذكرهما فاتحة الكتاب دون غيرها ، وإذا تعارضا سقطا ، فلم يثبت كونها ناقصة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب .

قيل له : لا يجوز أن يعارض مالك وابن عيينة بمحمد بن عجلان ، بل السهو والإغفال أجوز عليه منهما ، فلا يعترض على روايتهما به وعلى أنه ليس فيه تعارض ؛ إذ جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالهما جميعا ، قال مرة : وذكر فاتحة الكتاب ، وذكر مرة أخرى القراءة مطلقة .

وأيضا فجائز أن يكون المراد بذكر الإطلاق ما قيده في خبر هذين فإن قال قائل : إذا جوزت أن يكون النبي عليه السلام قد قال الأمرين ، فحديث محمد بن عجلان يدل على جواز الصلاة بغير قراءة رأسا ؛ لإثباته إياها ناقصة مع عدم القراءة رأسا .

قيل له : نحن نقبل هذا السؤال ، ونقول كذلك : يقتضي ظاهر الخبرين ؛ إلا أن الدلالة قامت على أن ترك القراءة يفسدها ، فحملناه على معنى الخبر الآخر قال أبو بكر : وقد رويت أخبار أخر في قراءة فاتحة الكتاب يحتج بها من يراها فرضا فمنها حديث العلاء بن عبد الرحمن عن عائشة وعن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني [ ص: 25 ] وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى : حمدني عبدي وذكر الحديث قالوا : فلما عبر بالصلاة عن قراءة فاتحة الكتاب دل على أنها من فروضها ، كما أنه لما عبر عن الصلاة بالقرآن في قوله : وقرآن الفجر وأراد قراءة صلاة الفجر دل على أنها من فروضها ، وكما عبر عنها بالركوع فقال : واركعوا مع الراكعين دل على أنه من فروضها .

قيل له : لم تكن العبارة عنهما لما ذكرت موجبا لفرض القراءة والركوع فيها دون ما تناوله من لفظ الأمر المقتضي للإيجاب ، وليس في قوله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي أمر ، وإنما أكثر ما فيه الصلاة بقراءة فاتحة الكتاب ، وذلك غير مقتض للإيجاب ؛ لأن الصلاة تشتمل على النوافل والفروض .

وقد أفاد النبي عليه السلام بهذا الحديث نفي إيجابها ؛ لأنه قال في آخره : فمن لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فأثبتها ناقصة مع عدم قراءتها .

ومعلوم أنه لم يرد نسخ أول كلامه بآخره ، فدل ذلك على أن قول الله تعالى " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " وذكر فاتحة الكتاب لا يوجب أن يكون قراءتها فرضا فيها .

وهذا كما روى شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أنس بن أبي أنس عن عبد الله بن نافع ابن العمياء عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن أبي وادعة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة مثنى مثنى ، وتشهد في كل ركعتين ، وتبأس وتمسكن وتقنع لربك ، وتقول اللهم ، فمن لم يفعل فهي خداج ولم يوجب ذلك أن يكون ما سماه صلاة من هذه الأفعال فرضا فيها .

ومما يحتج به المخالفون أيضا حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وبما حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا جعفر عن أبي عثمان عن أبي هريرة ، قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد قال أبو بكر : قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب يحتمل نفي الأصل ونفي الكمال ، وإن كان ظاهره عندنا على نفي الأصل حتى تقوم الدلالة على أن المراد نفي الكمال .

ومعلوم أنه غير جائز إرادة الأمرين جميعا ؛ لأنه متى أراد نفي الأصل لم يثبت منه شيء ، وإذا أراد نفي الكمال ، وإثبات النقصان فلا محالة بعضه ثابت ، وإرادتهما معا منتفية مستحيلة .

والدليل على أنه لم يرد نفي الأصل أن إثبات ذلك إسقاط التخيير في قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن وذلك نسخ ، وغير جائز نسخ القرآن [ ص: 26 ] بأخبار الآحاد .

ويدل عليه أيضا ما رواه أبو حنيفة وأبو معاوية وابن فضيل وأبو سفيان عن أبي نضرة عن سعيد عن النبي عليه السلام ، قال : لا تجزي صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في الفريضة وغيرها إلا أن أبا حنيفة قال معها غيرها .

وقال معاوية لا صلاة ، ومعلوم أنه لم يرد نفي الأصل وإنما مراده نفي الكمال لاتفاق الجميع على أنها مجزية بقراءة فاتحة الكتاب ، وإن لم يقرأ معها غيرها فثبت أنه أراد نفي الكمال وإيجاب النقصان ، وغير جائز أن يريد به نفي الأصل ونفي الكمال لتضادهما واستحالة إرادتهما جميعا بلفظ واحد .

فإن قال قائل : هذا حديث غير حديث عبادة وأبي هريرة ، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فأوجب بذلك قراءتها وجعلها فرضا فيها ، وقال مرة أخرى ما ذكره سعيد من قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها ، وأراد به نفي الكمال إذا لم يقرأ مع فاتحة الكتاب غيرها .

قيل له : ليس معك تاريخ الحديثين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حالين ، ويحتاج إلى دلالة في إثبات كل واحد من الخبرين في الحالين ولمخالفك أن يقول : لما لم يثبت أن النبي عليه السلام قال ذلك في وقتين ، وقد ثبت اللفظان جميعا ، جعلتهما حديثا واحدا ساق بعض الرواة لفظه على وجهه وأغفل بعضهم بعض ألفاظه ، وهو ذكر السورة ، فهما متساويان حينئذ ، ويثبت الخبر بزيادة في حالة واحدة ، ويكون لقول خصمك مزية على قولك ، وهو أن كل ما لم يعرف تاريخه فسبيله أن يحكم بوجودهما معا .

وإذا ثبت أنه قالهما في وقت واحد بزيادة السورة ، فمعلوم أنه مع ذكر السورة لم يرد نفي الأصل ، وإنما أراد إثبات النقص ، حملناه على ذلك ، ويكون ذلك كقوله عليه السلام : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ومن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ، ولا إيمان لمن لا أمانة له وكقوله تعالى : إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم فنفاها بدءا وأثبتها ثانيا ؛ لأنه أراد نفي الكمال لا نفي الأصل ، أي : لا أيمان لهم وافية فيفون بها فإن قال قائل : فهلا استعملت الأخبار على ظواهرها واستعملت التخيير المذكور في الآية فيما عدا فاتحة الكتاب قيل له : لو انفردت الأخبار عن الآية ، لما كان فيها ما يوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب ، لما بينا من أن فيها ما لا يحتمل إلا إثبات الأصل مع تركها ، واحتمال سائر الأخبار الأخر لنفي الأصل ونفي الكمال .

وعلى أن هذه الأخبار لو كانت موجبة [ ص: 27 ] لتعيين فرض القراءة فيها لما جاز الاعتراض بها على الآية وصرفها عن الواجب إلى النفل فيما عدا الكتاب ؛ لما ذكرناه في أول المسألة فارجع إليه فإنك تجده كافيا إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية