الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 154 ] 99 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في حديث الظلة الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب من قولهلأبي بكر فيه : لا تقسم ، هل هو لكراهية القسم أم لما سوى ذلك ؟

قد روينا في هذا الباب الذي قبل هذا الباب قول أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما عبر الرؤيا التي عبرها فيه : أصبت أو أخطأت ؟ وقول النبي عليه السلام له : أصبت بعضا وأخطأت بعضا وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أقسمت عليك لما أخبرتني ما أصبت مما أخطأت ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : لا تقسم ، فاحتمل أن يكون ذلك لكراهيته للقسم أو لما سوى ذلك ، فطلبنا الحقيقة في ذلك .

فوجدنا الله تعالى قد ذكر القسم في غير موضع من كتابه ، فمن ذلك قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة في معنى أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة ، وكانت لا فيهما صلة .

[ ص: 155 ] ومن ذلك قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم في معنى أقسم بمواقع النجوم ، وكانت " لا " في ذلك صلة .

ومن ذلك قوله تعالى : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فكان ذلك على قسمهم أن يصرموها مصبحين ، وكان الذي ينبغي لهم في ذلك أن يصلوه بالرد إلى مشيئة الله تعالى فلم ينكر عليهم قسمهم وأنكر تركهم تعليق ذلك إلى مشيئة الله فيه .

ثم نظرنا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على الحقيقة كانت في ذلك .

673 - فوجدنا محمد بن علي بن داود قد حدثنا قال : حدثنا محمد بن عبد الواهب ، حدثنا يعقوب بن عبد الله القمي ، عن جعفر بن عبد الله ، عن سعيد ، [ ص: 156 ] عن ابن عباس قال : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار فلما دنا من منزله سمعه يتكلم في الداخل ، فلما استأذن عليه فدخل فلم ير أحدا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت تكلما عندك فقال : يا رسول الله لقد دخلت الداخل اغتماما بكلام الناس مما بي من الحمى فدخل علي داخل ما رأيت رجلا بعدك أكرم مجلسا ولا أحسن حديثا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإن منكم رجالا لو أن أحدهم يقسم على الله لأبره .

674 - وقد وجدنا ابن أبي داود ، حدثنا قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن كثير بن زيد ، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رب أشعث ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره .

[ ص: 157 ]

675 - ووجدنا بكارا وابن مرزوق قد حدثانا قالا : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، عن حميد الطويل ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .

676 - ووجدنا محمد بن عزيز قد حدثنا قال : حدثنا سلامة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس قال : قال رسول الله عليه السلام : كم ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه ، منهم البراء بن مالك .

677 - ووجدنا عبد الغني بن أبي عقيل اللخمي قد حدثنا قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، حدثنا شعبة ، عن أشعث بن سليم ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، [ ص: 158 ] عن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم .

678 - ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا قال : حدثنا أبو داود ووهب بن جرير قالا : حدثنا شعبة ... ثم ذكر بإسناده مثله غير أنه قال : بإبرار القسم .

679 - ووجدنا بكارا قد حدثنا قال : حدثنا مؤمل وحدثنا فهد ، حدثنا أبو نعيم قالا : حدثنا سفيان ، عن معبد بن خالد ، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأهل الجنة : كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، [ ص: 159 ] ألا أنبئكم بأهل النار : كل عتل جواظ مستكبر .

680 - ووجدنا أحمد بن داود قد حدثنا قال : حدثنا علي بن بحر بن بري ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن حفص بن عبيد الله بن أنس قال : سمعت أنسا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب أشعث أغبر ذي طمرين مصفح على أبواب الناس لو أقسم على الله عز وجل لأبره .

[ ص: 160 ] فعقلنا بما تلونا من كتاب الله وبما روينا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة القسم ؛ لأن القسم لو كان مكروها لكان مستعمله عاصيا ولما أبر الله قسمه .

فقال قائل : فما معنى قوله لأبي بكر حين أقسم عليه : لا تقسم .

قيل له : إن قسم أبي بكر كان عليه ليخبره بحقيقة الخطأ من حقيقة الصواب ، وكان ذلك غير موصول إليه في ذلك المعنى ؛ لأن العبارة إنما هي بالظن والتحري لا بما سواهما ، وقد روي مثل ذلك فيها .

كما .

حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا أبو قتيبة ، عن مهدي بن ميمون ، عن محمد بن سيرين قال : التفسير يعني الرؤيا إنما هو ظن أظنه وليس بحلال ولا حرام ، ثم قرأ : وقال للذي ظن أنه ناج منهما .

قال أحمد : يعني أن يوسف عليه السلام قال للذي ظن أنه ناج منهما ، فكان تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثلها من هذا الجنس أيضا ، وكان نهيه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر عن القسم عليه ليخبرنه إياه لهذا المعنى لا لما سواه ، ومما قد دل على ذلك أن أبا بكر قد أقسم بعد رسول الله عليه السلام .

كما .

حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : كان أبو بكر [ ص: 161 ] قد استعمل عمر على الشام فلقيه وأنا أشد الإبل بأقتابها ، فلما أراد أن يرتحل قال له الناس : أتدع عمر ينطلق إلى الشام وهو هاهنا يكفيك الشام ، فقال : أقسمت عليك لما أقمت .

فدل ذلك على أن موضع نهي النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر كان عند أبي بكر لما قد ذكرنا لا لما سواه من كراهية القسم ، وقد أقسم ابن عباس بعد أبي بكر أيضا .

كما .

حدثنا بكار ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان يعني الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر جاء العباس وعلي إلى أبي بكر في أشياء تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : شيء تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحركه لا أحركه ، فلما استخلف عمر اختصما إليه فقال عمر : شيء تركه أبو بكر إني لأكره أن أحركه ، فلما ولي عثمان اختصما إليه ، قال : فأسكت عثمان ونكس رأسه ، فقال ابن عباس : فضربت بيدي على كتفي العباس وقلت : يا أبتاه أقسمت عليك لما سلمته لعلي ، قال : فسلمه لعلي .

[ ص: 162 ] فدل ذلك على أن معنى ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث من قوله لأبي بكر : لا تقسم ، لم يكن معناه عند ابن عباس أيضا على كراهية القسم ، ولكن للمعنى الذي ذكرنا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية