الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدا قال ابن عباس من نسي فلا بأس وقال الله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق والناسي لا يسمى فاسقا وقوله وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون

                                                                                                                                                                                                        5179 حدثني موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع عن جده رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع فأصبنا إبلا وغنما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور فدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا قال وقال جدي إنا لنرجو أو نخاف أن نلقى العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأخبركم عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة [ ص: 539 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 539 ] قوله ( باب التسمية على الذبيحةومن ترك متعمدا ) كذا للجميع ووقع في بعض الشروح هنا " كتاب الذبائح " وهو خطأ لأنه ترجم أولا كتاب الصيد والذبائح أو كتاب الذبائح والصيد فلا يحتاج إلى تكرار ، وأشار بقوله متعمدا إلى ترجيح التفرقة بين المتعمد لترك التسمية فلا تحل تذكيته ومن نسي فتحل ، لأنه استظهر لذلك بقول ابن عباس وبما ذكر بعده من قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ثم قال " والناسي لا يسمى فاسقا " يشير إلى قوله تعالى في الآية وإنه لفسق فاستنبط منها أن الوصف للعامد فيختص الحكم به ، والتفرقة بين الناسي والعامد في الذبيحة قول أحمد وطائفة وقواه الغزالي في " الإحياء " محتجا بأن ظاهر الآية الإيجاب مطلقا وكذلك الأخبار ، وأن الأخبار الدالة على الرخصة تحتمل التعميم وتحتمل الاختصاص بالناسي فكان حمله عليه أولى لتجري الأدلة كلها على ظاهرها ويعذر الناسي دون العامد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن عباس : من نسي فلا بأس ) وصله الدارقطني من طريق شعبة عن مغيرة عن إبراهيم في المسلم يذبح وينسى التسمية قال : لا بأس به . وبه عن شعبة عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء حدثني " ع " عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا ، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عيينة بهذا الإسناد فقال في سنده عن " ع " يعني عكرمة عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية فقال : المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية ، وسنده صحيح ، وهو موقوف . وذكره مالك بلاغا عن ابن عباس ، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول المصنف وقوله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم فكأنه يشير بذلك إلى الزجر عن الاحتجاج لجواز ترك التسمية بتأويل الآية وحملها على غير ظاهرها لئلا يكون ذلك من وسوسة الشيطان ليصد عن ذكر الله تعالى ، وكأنه لمح بما أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبري بسند صحيح عن ابن عباس في قوله وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم قال " كانوا يقولون ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوه وما لم يذكر عليه اسم الله فكلوه ، قال الله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأخرج أبو داود والطبري أيضا من وجه آخر عن ابن عباس قال " جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تأكل مما قتلنا ولا تأكل مما قتله الله ؟ فنزلت : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه وساق إلى قوله لمشركون إن أطعتموهم فيما نهيتكم عنه ، ومن طريق معمر عن قتادة في هذه الآية وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم قال جادلهم المشركون في الذبيحة فذكر نحوه ، ومن طريق أسباط عن السدي نحوه ، ومن طريق ابن جريج قلت لعطاء : ما قوله فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ قال : يأمركم بذكر اسمه على الطعام والشراب والذبح ، قلت : فما قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان . قال الطبري : من قال إن ما ذبحه المسلم فنسي أن يذكر اسم الله عليه لا يحل فهو قول بعيد من الصواب لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعة ، [ ص: 540 ] قال : وأما قوله وإنه لفسق فإنه يعني أن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهل به لغير الله فسق ، ولم يحك الطبري عن أحد خلاف ذلك . وقد استشكل بعض المتأخرين كون قوله وإنه لفسق منسوقا على ما قبله ، لأن الجملة الأولى طلبية وهذه خبرية وهذا غير سائغ ، ورد هذا القول بأن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك ، ولهم شواهد كثيرة ، وادعى المانع أن الجملة مستأنفة ، ومنهم من قال الجملة حالية أي لا تأكلوه والحال أنه فسق أي لا تأكلوه في حال كونه فسقا ، والمراد بالفسق قد بين في قوله تعالى في الآية الأخرى أو فسقا أهل لغير الله به فرجع الزجر إلى النهي عن أكل ما ذبح لغير الله ، فليست الآية صريحة في فسق من أكل ما ذبح بغير تسمية اهـ ، ولعل هذا القدر هو الذي حذرت منه الآية ، وقد نوزع المذكور فيما حمل عليه الآية ومنع ما ادعاه من كون الآية مجملة والأخرى مبينة لأن ثم شروطا ليست هنا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن سعيد بن مسروق ) هو الثوري والد سفيان ، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن عباية ) بفتح المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف تحتانية .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن جده رافع بن خديج ) كذا قال أكثر أصحاب سعيد بن مسروق عنه كما سيأتي في آخر كتاب الصيد والذبائح . وقال أبو الأحوص " عن سعيد عن عباية عن أبيه عن جده " وليس لرفاعة بن رافع ذكر في كتب الأقدمين ممن صنف في الرجال ، وإنما ذكروا ولده عباية بن رفاعة . نعم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال : إنه يكنى أبا خديج ، وتابع أبا الأحوص على زيادته في الإسناد حسان بن إبراهيم الكرماني عن سعيد بن مسروق أخرجه البيهقي من طريقه ، وهكذا رواه ليث بن أبي سليم عن أبي سليم عن عباية عن أبيه عن جده ، قاله الدارقطني في " العلل " ، قال : وكذا قال مبارك بن سعيد الثوري عن أبيه ، وتعقب بأن الطبراني أخرجه من طريق مبارك فلم يقل في الإسناد عن أبيه ، فلعله اختلف على المبارك فيه فإن الدارقطني لا يتكلم في هذا الفن جزافا ، ورواية ليث بن أبي سليم عند الطبراني ، وقد أغفل الدارقطني ذكر طريق حسان بن إبراهيم ، قال الجياني : روى البخاري حديث رافع من طريق أبي الأحوص فقال " عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رافع عن أبيه عن جده " هكذا عند أكثر الرواة ، وسقط قوله " عن أبيه " في رواية أبي علي بن السكن عند الفربري وحده وأظنه من إصلاح ابن السكن فإن ابن أبي شيبة أخرجه عن أبي الأحوص بإثبات قوله " عن أبيه " ثم قال أبو بكر : لم يقل أحد في هذا السند عن أبيه غير أبي الأحوص اهـ . وقد قدمت في " باب التسمية على الذبيحة " ذكر من تابع أبا الأحوص على ذلك .

                                                                                                                                                                                                        ثم نقل الجياني عن عبد الغني بن سعيد حافظ مصر أنه قال : خرج البخاري هذا الحديث عن مسدد عن أبي الأحوص على الصواب ، يعني بإسقاط " عن أبيه " ، قال : وهو أصل يعمل به من بعد البخاري إذا وقع في الحديث خطأ لا يعول عليه ، قال : وإنما يحسن هذا في النقص دون الزيادة فيحذف الخطأ ، قال الجياني : وإنما تكلم عبد الغني على ما وقع في رواية ابن السكن ظنا منه أنه من عمل البخاري ، وليس كذلك لما بينا أن الأكثر رووه عن البخاري بإثبات قوله " عن أبيه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ) زاد سفيان الثوري عن أبيه " من تهامة " تقدمت في الشركة ، وذو الحليفة هذا مكان غير ميقات المدينة ، لأن الميقات في طريق الذاهب من المدينة ومن الشام إلى مكة ، وهذه بالقرب من ذات عرق بين الطائف ومكة ، كذا جزم به أبو بكر الحازمي وياقوت ، ووقع للقابسي أنها الميقات المشهور وكذا ذكر النووي قالوا : وكان ذلك عند رجوعهم من الطائف سنة ثمان . وتهامة اسم لكل [ ص: 541 ] ما نزل من بلاد الحجاز ، سميت بذلك من التهم بفتح المثناة والهاء وهو شدة الحر وركود الريح وقيل تغير الهواء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأصاب الناس جوع ) كأن الصحابي قال هذا ممهدا لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأصبنا إبلا وغنما ) في رواية أبي الأحوص " وتقدم سرعان الناس فأصابوا من المغانم " ووقع في رواية الثوري الآتية بعد أبواب " فأصبنا نهب إبل وغنم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس ) أخريات جمع أخرى ، وفي رواية أبي الأحوص " في آخر الناس " ، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك صونا للعسكر وحفظا ، لأنه لو تقدمهم لخشي أن ينقطع الضعيف منهم دونه ، وكان حرصهم على مرافقته شديدا فيلزم من سيره في مقام الساقة صون الضعفاء لوجود من يتأخر معه قصدا من الأقوياء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فعجلوا فنصبوا القدور ) يعني من الجوع الذي كان بهم ، فاستعجلوا فذبحوا الذي غنموه ووضعوه في القدور ، ووقع في رواية داود بن عيسى عن سعيد بن مسروق " فانطلق ناس من سرعان الناس فذبحوا ونصبوا قدورهم قبل أن يقسم " وقد تقدم في الشركة من رواية علي بن الحكم عن أبي عوانة " فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور " وفي رواية الثوري " فأغلوا القدور " أي أوقدوا النار تحتها حتى غلت ، وفي رواية زائدة عن عمر بن سعيد عند أبي نعيم في " المستخرج على مسلم " وساق مسلم إسنادها " فعجل أولهم فذبحوا ونصبوا القدور " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ) دفع بضم أوله على البناء للمجهول ، والمعنى أنه وصل إليهم ، ووقع في رواية زائدة عن سعيد بن مسروق " فانتهى إليهم " أخرجه الطبراني .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأمر بالقدور فأكفئت ) بضم الهمزة وسكون الكاف أي قلبت وأفرغ ما فيها ، وقد اختلف في هذا المكان في شيئين : أحدهما سبب الإراقة ، والثاني هل أتلف اللحم أم لا ؟

                                                                                                                                                                                                        فأما الأول فقال عياض : كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلا بعد القسمة ، وأن محل جواز ذلك قبل القسمة إنما هـو ما داموا في دار الحرب ، قال : ويحتمل أن سبب ذلك كونهم انتهبوها ، ولم يأخذوها باعتدال وعلى قدر الحاجة . قال : وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك ، يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه وله صحبة عن رجل من الأنصار قال : أصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنما فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ، ثم قال : إن النهبة ليست بأحل من الميتة اهـ . وهذا يدل على أنه عاملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث .

                                                                                                                                                                                                        وأما الثاني فقال النووي : المأمور به من إراقة القدور إنما هـو إتلاف المرق عقوبة لهم ، وأما اللحم فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم ، ولا يظن أنه أمر بإتلافه مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وهذا من مال الغانمين ، وأيضا فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة فإن منهم من لم يطبخ ومنهم المستحقون للخمس فإن قيل لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم قلنا : ولم ينقل أنهم أحرقوه أو أتلفوه ، فيجب تأويله على وفق القواعد اهـ .

                                                                                                                                                                                                        ويرد عليه حديث أبي داود فإنه جيد الإسناد وترك تسمية الصحابي لا يضر ، ورجال الإسناد على شرط مسلم ، ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل ، لأن السياق يشعر بأنه أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل ، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لم [ ص: 542 ] يكن فيه كبير زجر ، لأن الذي يخص الواحد منهم نزر يسير فكان إفسادها عليهم مع تعلق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزجر . وأبعد المهلب فقال : إنما عاقبهم لأنهم استعجلوا وتركوه في آخر القوم متعرضا لمن يقصده من عدو ونحوه ، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم كان مختارا لذلك كما تقدم تقريره ، ولا معنى للحمل على الظن مع ورود النص بالسبب . وقال الإسماعيلي : أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور يجوز أن يكون من أجل أن ذبح من لا يملك الشيء كله لا يكون مذكيا ، ويجوز أن يكون من أجل أنهم تعجلوا إلى الاختصاص بالشيء دون بقية من يستحقه من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس ، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجرا لهم عن معاودة مثله ، ثم رجح الثاني وزيف الأول بأنه لو كان كذلك لم يحل أكل البعير الناد الذي رماه أحدهم بسهم ، إذ لم يأذن لهم الكل في رميه ، مع أن رميه ذكاة له كما نص عليه في نفس حديث الباب اهـ ملخصا .

                                                                                                                                                                                                        وقد جنح البخاري إلى المعنى الأول وترجم عليه كما سيأتي في أواخر أبواب الأضاحي ، ويمكن الجواب عما ألزمه به الإسماعيلي من قصة البعير بأن يكون الرامي رمى بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة فأقروه ، فدل سكوتهم على رضاهم بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، فافترقا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير ) في رواية [1] . وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك ، فلعل الإبل كانت قليلة أو نفيسة والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه ، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي من أن البعير يجزئ عن سبع شياه ، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين ، وأما هـذه القسمة فكانت واقعة عين فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم ، وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " والبدنة تطلق على الناقة والبقرة ، وأما حديث ابن عباس " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة " فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وعضده بحديث رافع بن خديج هذا . والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبعة ما لم يعرض عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم بحسب ذلك ، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك . ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها ، ويحتمل - إن كانت الواقعة تعددت - أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا فلما أريق مرقها ضمت إلى المغنم لتقسم ثم يطبخها من وقعت في سهمه ، ولعل هذا هـو النكتة في انحطاط قيمة الشياه عن العادة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فند ) بفتح النون وتشديد الدال أي هرب نافرا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( منها ) أي من الإبل المقسومة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وكان في القوم خيل يسيرة ) فيه تمهيد لعذرهم في كون البعير الذي ند أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله ، فكأنه يقول : لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به فيأخذوه . ووقع في رواية أبي الأحوص " ولم يكن معهم خيل " أي كثيرة أو شديدة الجري ، فيكون النفي لصفة في الخيل لا لأصل الخيل جمعا بين الروايتين .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 543 ] قوله ( فطلبوه فأعياهم ) أي أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأهوى إليه رجل ) أي قصد نحوه ورماه ، ولم أقف على اسم هذا الرامي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فحبسه الله ) أي أصابه السهم فوقف .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن لهذه البهائم ) في رواية الثوري وشعبة المذكورتين بعد " إن لهذه الإبل " قال بعض شراح المصابيح : هذه " اللام " تفيد معنى " من " لأن البعضية تستفاد من اسم إن لكونه نكرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أوابد ) جمع آبدة بالمد وكسر الموحدة أي غريبة ، يقال جاء فلان بآبدة أي بكلمة أو فعلة منفرة ، يقال أبدت بفتح الموحدة تأبد بضمها ويجوز الكسر أبودا ، ويقال تأبدت أي توحشت ، والمراد أن لها توحشا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا ) في رواية الثوري " فما غلبكم منها " وفي رواية أبي الأحوص " فما فعل منها هـذا فافعلوا مثل هذا " زاد عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه " فاصنعوا به ذلك وكلوه " أخرجه الطبراني ، وفيه جواز أكل ما رمي بالسهم فجرح في أي موضع كان من جسده ، بشرط أن يكون وحشيا أو متوحشا ، وسيأتي البحث فيه بعد ثمانية أبواب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال جدي ) زاد عبد الرزاق عن الثوري في روايته " يا رسول الله " وهذا صورته مرسل ، فإن عباية ابن رفاعة لم يدرك زمان القول ، وظاهر سائر الروايات أن عباية نقل ذلك عن جده ، ففي رواية شعبة عن جده أنه قال " يا رسول الله " وفي رواية عمر بن عبيد الآتية أيضا " قال قلت يا رسول الله " وفي رواية أبي الأحوص " قلت يا رسول الله .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إنا لنرجو أو نخاف ) هو شك من الراوي ، وفي التعبير بالرجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدو لما يرجونه من فضل الشهادة أو الغنيمة ، وبالخوف إشارة إلى أنهم لا يحبون أن يهجم عليهم العدو بغتة ، ووقع في رواية أبي الأحوص " إنا نلقى العدو غدا " بالجزم ، ولعله عرف ذلك بخبر من صدقه أو بالقرائن ، وفي رواية يزيد بن هارون عن الثوري عند أبي نعيم في المستخرج على مسلم " إنا نلقى العدو غدا وإنا نرجو " كذا بحذف متعلق الرجاء ، ولعل مراده الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وليست معنا مدى ) بضم أوله - مخفف مقصور - جمع مدية بسكون الدال بعدها تحتانية وهي السكين ، سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره ، والرابط بين قوله " نلقى العدو وليست معنا مدى " يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه ، ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقووا به على العدو إذا لقوه ، ويؤيده ما تقدم من قسمة الغنم والإبل بينهم فكان معهم ما يذبحونه ، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم لئلا يضر ذلك بحدها والحاجة ماسة له . فسأل عن الذي يجزئ في الذبح غير السكين والسيف ، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه مع إمكان ما في معنى المدية وهو السيف . وقد وقع في حديث غير هذا " إنكم لاقو العدو غدا والفطر أقوى لكم " فندبهم إلى الفطر ليتقووا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أفنذبح بالقصب ) ؟ يأتي البحث فيه بعد بابين .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ما أنهر الدم ) أي أساله وصبه بكثرة ، شبه بجري الماء في النهر . قال عياض : هذا هـو المشهور في [ ص: 544 ] الروايات بالراء ، وذكره أبو ذر الخشني بالزاي وقال : النهز بمعنى الرفع وهو غريب ، و " ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها " فكلوا " والتقدير ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا ، ويحتمل أن تكون شرطية ، ووقع في رواية أبي إسحاق عن الثوري " كل ما أنهر الدم ذكاة " و " ما " في هذا موصوفة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وذكر اسم الله ) هكذا وقع هنا ، وكذا هـو عند مسلم بحذف قوله " عليه " وثبتت هذه اللفظة في هذا الحديث عند المصنف في الشركة ، وكلام النووي في " شرح مسلم " يوهم أنها ليست في البخاري إذ قال : هكذا هـو في النسخ كلها يعني من مسلم وفيه محذوف أي ذكر اسم الله عليه أو معه ، ووقع في رواية أبي داود وغيره " وذكر اسم الله عليه " اهـ فكأنه لما لم يرها في الذبائح من البخاري أيضا عزاها لأبي داود ، إذ لو استحضرها من البخاري ما عدل عن التصريح بذكرها فيه اشتراط التسمية ، لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإنهار والتسمية ، والمعلق على شيئين لا يكتفى فيه إلا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما ، وقد تقدم البحث في اشتراط التسمية أول الباب ، ويأتي أيضا قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ليس السن والظفر ) بالنصب على الاستثناء بليس ، ويجوز الرفع أي ليس السن والظفر مباحا أو مجزئا . ووقع في رواية أبي الأحوص " ما لم يكن سن أو ظفر " وفي رواية عمر بن عبيد " غير السن والظفر " ، وفي رواية داود بن عيسى " إلا سنا أو ظفرا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وسأحدثكم عن ذلك ) في رواية غير أبي ذر " وسأخبركم " وسيأتي البحث فيه وهل هو من جملة المرفوع أو مدرج في " باب إذا أصاب قوم غنيمة " قبيل كتاب الأضاحي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أما السن فعظم ) قال البيضاوي : هو قياس حذفت منه المقدمة الثانية لشهرتها عندهم ، والتقدير أما السن فعظم ، وكل عظم لا يحل الذبح به ، وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها . وقال ابن الصلاح في " مشكل الوسيط " هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد قرر كون الذكاة لا تحصل بالعظم فلذلك اقتصر على قوله " فعظم " ، قال : ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل ، وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام . ، وقال النووي : معنى الحديث لا تذبحوا بالعظام فإنها تنجس بالدم وقد نهيتكم عن تنجيسها لأنها زاد إخوانكم من الجن اهـ ، وهو محتمل ولا يقال كان يمكن تطهيرها بعد الذبح بها لأن الاستنجاء بها كذلك ، وقد تقرر أنه لا يجزئ . وقال ابن الجوزي في " المشكل " : هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودا عندهم أنه لا يجزئ ، وقررهم الشارع على ذلك وأشار إليه هنا . قلت : وسأذكر بعد بابين من حديث حذيفة ما يصلح أن يكون مستندا لذلك إن ثبت .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وأما الظفر فمدى الحبشة ) أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم ، قاله ابن الصلاح وتبعه النووي : وقيل نهى عنهما لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان ، ولا يقع به غالبا إلا الخنق الذي ليس هو على صورة الذبح ، وقد قالوا : إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقا . واعترض على التعليل الأول بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار ، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وأما ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبيه لضعفها ، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها كما سيأتي واضحا ، ثم وجدت في " المعرفة للبيهقي " من رواية حرملة عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث [ ص: 545 ] على النوع الذي يدخل في البخور فقال : معقول في الحديث أن السن إنما يذكى بها إذا كانت منتزعة ، فأما وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة ، يعني فدل على أن المراد بالسن السن المنتزعة وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية من جوازه بالسن المنفصلة قال : وأما الظفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان لقال فيه ما قال في السن ، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق .

                                                                                                                                                                                                        وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم تحريم التصرف في الأموال المشتركة من غير إذن ولو قلت ولو وقع الاحتياج إليها ، وفيه انقياد الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشديدة . وفيه أن للإمام عقوبة الرعية بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشرعية ، وأن قسمة الغنيمة يجوز فيها التعديل والتقويم ، ولا يشترط قسمة كل شيء منها على حدة ، وأن ما توحش من المستأنس يعطى حكم المتوحش وبالعكس ، وجواز الذبح بما يحصل المقصود سواء كان حديدا أم لا ، وجواز عقر الحيوان الناد لمن عجز عن ذبحه كالصيد البري والمتوحش من الإنسي ويكون جميع أجزائه مذبحا فإذا أصيب فمات من الإصابة حل ، أما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح أو النحر إجماعا . وفيه التنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها فيها .

                                                                                                                                                                                                        وفيه منع الذبح بالسن والظفر متصلا كان أو منفصلا طاهرا كان أو متنجسا ، وفرق الحنفية بين السن والظفر المتصلين فخصوا المنع بهما وأجازوه بالمنفصلين ، وفرقوا بأن المتصل يصير في معنى الخنق والمنفصل في معنى الحجر ، وجزم ابن دقيق العيد بحمل الحديث على المتصلين ثم قال : واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقا لقوله " أما السن فعظم " فعلل منع الذبح به لكونه عظما ، والحكم يعم بعموم علته ، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات ثالثها يجوز بالعظم دون السن مطلقا رابعها يجوز بهما مطلقا حكاها ابن المنذر ، وحكى الطحاوي الجواز مطلقا عن قوم ، واحتجوا بقوله في حديث عدي بن حاتم " أمر الدم بما شئت " أخرجه أبو داود ، لكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحا في حديث رافع عملا بالحديثين ، وسلك الطحاوي طريقا آخر فاحتج لمذهبه بعموم حديث عدي قال : والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم ، لكنه في المنزوعين غير محقق وفي غير المنزوعين محقق من حيث النظر ، وأيضا فالذبح بالمتصلين يشبه الخنق وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة من حجر وخشب . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية