الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش وأجازه ابن مسعود وقال ابن عباس ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد وفي بعير تردى في بئر من حيث قدرت عليه فذكه ورأى ذلكعلي وابن عمر وعائشة

                                                                                                                                                                                                        5190 حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا سفيان حدثنا أبي عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى فقال اعجل أو أرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب ما ند ) أي نفر ( من البهائم ) أي الإنسية ( فهو بمنزلة الوحش ) أي في جواز عقره على أي صفة اتفقت ، وهو مستفاد من قوله في الخبر " فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا " وأما قوله " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش " فالظاهر أن تقديم ذكر هذا التشبيه كالتمهيد لكونها تشارك المتوحش في الحكم . وقال ابن المنير : بل المراد أنها تنفر كما ينفر الوحش لا أنها تعطى حكمها ، كذا قال ، وآخر الحديث يرد عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وأجازه ابن مسعود ) يشير إلى ما تقدم في " باب صيد القوس " عن ابن مسعود ، وأخرج البيهقي من طريق أبي العميس عن غضبان بن يزيد البجلي عن أبيه قال " أعرس رجل من الحي فاشترى جزورا فندت فعرقبها وذكر اسم الله ، فأمرهم عبد الله - يعني ابن مسعود - أن يأكلوا ، فما طابت أنفسهم حتى جعلوا له منها بضعة ثم أتوه بها فأكل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن عباس : ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد ، وفي بعير تردى في بئر فذكه من حيث قدرت ) في رواية كريمة " من حيث قدرت عليه فذكه " . أما الأثر الأول فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بهذا قال : فهو بمنزلة الصيد ، وأما الثاني فوصله عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة عنه قال : إذا وقع البعير في البئر فاطعنه من قبل خاصرته واذكر اسم الله وكل .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة ) أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق أبي راشد السلماني قال : كنت أرعى منائح لأهلي بظهر الكوفة ، فتردى منها بعير ، فخشيت أن يسبقني بذكاته " فأخذت حديدة فوجأته بها في جنبه أو سنامه ، ثم قطعته أعضاء وفرقته على أهلي ، فأبوا أن يأكلوه ، فأتيت عليا فقمت على باب قصره فقلت : يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، فقال : يا لبيكاه يا لبيكاه ، فأخبرته خبره ، فقال : كل وأطعمني .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق في أثر حديث رافع بن خديج من رواية سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة ، وقد تقدم في " باب لا يذكى بالسن والعظم " وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عباية بلفظ " تردى بعير [ ص: 555 ] في ركية ، فنزل رجل لينحره فقال : لا أقدر على نحره ، فقال له ابن عمر : اذكر اسم الله ثم اقتل شاكلته - يعني خاصرته - ففعل " وأخرج مقطعا ، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين أو أربعة . وأما أثر عائشة فلم أقف عليه بعد موصولا ; وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور ، وخالفهم مالك والليث ، ونقل أيضا عن سعيد بن المسيب وربيعة فقالوا : لا يحل أكل الإنسي إذا توحش إلا بتذكيته في حلقه أو لبته ، وحجة الجمهور حديث رافع ، ثم ذكر حديث رافع بن خديج من رواية يحيى القطان عن سفيان الثوري ، ولم يذكر فيه قصة نصب القدور وإكفائها وذكر سائر الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله فيه ( عن عباية بن رفاعة بن خديج ) كذا فيه نسب رفاعة إلى جده ، ووقع في رواية كريمة " رفاعة بن رافع بن خديج " بغير نقص فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فقال اعجل أو أرن ) في رواية كريمة بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون ، وكذا ضبطه الخطابي في سنن أبي داود ، وفي رواية أبي ذر بسكون الراء وكسر النون ، ووقع في رواية الإسماعيلي من هذا الوجه الذي هنا " وأرني " بإثبات الياء آخره ، قال الخطابي : هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة ، وسألت عنه أهل اللغة فلم أجد عندهم ما يقطع بصحته ، وقد طلبت له مخرجا . فذكر أوجها : أحدها أن يكون على الرواية بكسر الراء من أران القوم إذا هـلكت مواشيهم فيكون المعنى أهلكها ذبحا . ثانيها أن يكون على الرواية بسكون الراء بوزن أعط يعني انظر وأنظر وانتظر بمعنى ، قال الله تعالى حكاية عمن قال انظرونا نقتبس من نوركم أي أنظرونا ، أو هو بضم الهمزة بمعنى أدم الحز من قولك رنوت إذا أدمت النظر إلى الشيء ، وأراد أدم النظر إليه وراعه ببصرك . ثالثها أن يكون مهموزا من قولك أرن يأرن إذا نشط وخف ، كأنه فعل أمر بالإسراع لئلا يموت خنقا ورجح في " شرح السنن " هذا الوجه الأخير فقال : صوابه أرئن بهمزة ومعناه خف واعجل لئلا تخنقها ، فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يد وسرعة في إمرار تلك الآلة والإتيان على الحلقوم والأوداج كلها قبل أن تهلك الذبيحة بما ينالها من ألم الضغط قبل قطع مذابحها . ثم قال : وقد ذكرت هذا الحرف في " غريب الحديث " وذكرت فيه وجوها يحتملها التأويل وكان قال فيه يجوز أن تكون الكلمة تصحفت ، وكان في الأصل أزز بالزاي من قولك أزز الرجل إصبعه إذا جعلها في الشيء ، وأززت الجرادة أززا إذا أدخلت ذنبها في الأرض ، والمعنى شد يدك على النحر . وزعم أن هذا الوجه أقرب الجميع .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال عرضت كلام الخطابي على بعض أهل النقد فقال : أما أخذه من أران القوم فمعترض لأن أران لا يتعدى وإنما يقال أران هو ولا يقال أران الرجل غنمه . وأما الوجه الذي صوبه ففيه نظر وكأنه من جهة أن الرواية لا تساعده . وأما الوجه الذي جعله أقرب الجميع فهو أبعدها لعدم الرواية به . وقال عياض : ضبطه الأصيلي أرني فعل أمر من الرؤية ، ومثله في مسلم لكن الراء ساكنة قال : وأفادني بعضهم أنه وقف على هذه اللفظة في " مسند علي بن عبد العزيز " مضبوطة هكذا أرني أو اعجل ، فكأن الراوي شك في أحد اللفظين وهما بمعنى واحد ، والمقصود الذبح بما يسرع القطع ويجري الدم ، ورجح النووي أن أرن بمعنى اعجل وأنه شك من الراوي ، وضبط اعجل بكسر الجيم ، وبعضهم قال في رواية لمسلم أرني بسكون الراء وبعد النون ياء أي أحضرني الآلة التي تذبح بها لأراها ثم أضرب عن ذلك فقال : أو اعجل ، وأو تجيء للإضراب فكأنه قال قد لا يتيسر إحضار الآلة فيتأخر البيان فعرف الحكم فقال اعجل ما أنهر الدم إلخ ، قال وهذا أولى من حمله على الشك . وقال المنذري : اختلف في هذه اللفظة هل هي بوزن أعط أو بوزن أطع أو [ ص: 556 ] هي فعل أمر من الرؤية ؟ فعلى الأول المعنى أدم الحز من رنوت إذا أدمت النظر ، وعلى الثاني أهلكها ذبحا من أران القوم إذا هـلكت مواشيهم ، وتعقب بأنه لا يتعدى ، وأجيب بأن المعنى كن ذا شاة هالكة إذا أزهقت نفسها بكل ما أنهر الدم . قلت : ولا يخفى تكلفه . وأما على أنه بصيغة فعل الأمر فمعناه أرني سيلان الدم ، ومن سكن الراء اختلس الحركة ، ومن حذف الياء جاز ، وقوله واعجل بهمزة وصل وفتح الجيم وسكون اللام فعل أمر من العجلة أي اعجل لا تموت الذبيحة خنقا قال : ورواه بعضهم بصيغة أفعل التفضيل أي ليكن الذبح أعجل ما أنهر الدم ، قلت : وهذا وإن تمشى على رواية أبي داود بتقديم لفظ أرني على اعجل لم يستقم على رواية البخاري بتأخيرها ، وجوز بعضهم في رواية أرن بسكون الراء أن يكون من أرناني حسن ما رأيته أي حملني على الرنو إليه ، والمعنى على هذا أحسن الذبح حتى تحب أن ننظر إليك ، ويؤيده حديث إذا ذبحتم فأحسنوا أخرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                                        وقد سبقت مباحث هذا الحديث مستوفاة قبل ، وسياقه هناك أتم مما هـنا . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية