الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة يعني بالنفس: آدم ، [ ص: 301 ] وبزوجها: حواء . ومعنى ليسكن إليها : ليأنس بها ويأوي إليها . فلما تغشاها أي: جامعها . قال الزجاج : وهذا أحسن كناية عن الجماع . والحمل ، بفتح الحاء: ما كان في بطن ، أو أخرجته شجرة . والحمل ، بكسر الحاء: ما يحمل . والمراد بالحمل الخفيف: الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فمرت به أي: استمرت به ، قعدت وقامت ولم يثقلها . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والضحاك: فاستمرت به وقرأ أبي بن كعب ، والجوني " استمارت به " بزيادة ألف . وقرأ عبد الله بن عمرو ، والجحدري: فمارت به بألف وتشديد الراء . وقرأ أبو العالية ، وأيوب ، ويحيى بن يعمر: فمرت به خفيفة الراء ، أي: شكت وتمارت أحملت ، أم لا؟ فلما أثقلت أي: صار حملها ثقيلا . وقال الأخفش: صارت ذا ثقل . يقال: أثمرنا ، أي: صرنا ذوي ثمر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: دعوا الله ربهما يعني آدم وحواء لئن آتيتنا صالحا وفي المراد بالصالح قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما ، وخافا أن يكون بهيمة ، هذا قول الأكثرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الغلام ، قاله الحسن ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      شرح السبب في دعائهما

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء ، فقال: ما يدريك ما في بطنك ، لعله كلب أو خنزير أو حمار; وما يدريك من أين يخرج ، أيشق بطنك ، أم يخرج من فيك ، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك ، فدعوا الله حينئذ ، فجاء إبليس [ ص: 302 ] فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت ، قال: أفرأيت إن دعوت الله ، فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم ، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم . فلما ولدته سويا ، جاءها إبليس فقال: لم لا تسمينه بي كما وعدتني؟ فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فسمته: عبد الحارث ، وقيل: عبد شمس برضى آدم ، فذلك قوله: فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم: " شركاء " بضم الشين والمد ، جمع شريك . وقرأ نافع . وأبو بكر عن عاصم: " شركا " مكسورة الشين على المصدر ، لا على الجمع . قال أبو علي: من قرأ " شركا " حذف المضاف ، كأنه أراد: جعلا له ذا شرك ، وذوي شريك; فيكون المعنى: جعلا لغيره شركا ، لأنه إذا كان التقدير: جعلا له ذوي شرك ، فالمعنى: جعلا لغيره شركا; وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ "شركاء" وقال غيره: معنى "شركاء": شريكا ، فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم [آل عمران:173] . والمراد بالشريك: إبليس ، لأنهما أطاعاه في الاسم ، فكان الشرك في الطاعة ، لا في العبادة; ولم [ ص: 303 ] يقصدا أن الحارث ربهما ، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما; وقد يطلق العبد على من ليس بمملوك . قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تلك من شيمة العبد



                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد ، فقال الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحارث ، فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما ، هذا قول الجمهور ، وفيه قول ثان ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أشرك آدم ، إن أول الآية لشكر ، وآخرها مثل ضربه الله لمن يعبده في قوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما . وروى قتادة عن الحسن ، قال: هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا فهودوهم ونصروهم . وروي عن الحسن ، وقتادة قالا: الضمير في قوله: جعلا له شركاء عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم ، لا إلى آدم وحواء . وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح ، وهو السليم الخلق; فالمعنى: جعل له ذلك الولد شركاء . وإنما قيل: "جعلا" لأن حواء كانت تلد في كل [ ص: 304 ] بطن ذكرا وأنثى . قال ابن الأنباري: الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء . فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحا ، جعل أولادهما له شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال: واسأل القرية [يوسف:82] . وذهب السدي إلى أن قوله: فتعالى الله عما يشركون في مشركي العرب خاصة ، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحواء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية