الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون عطف قصة على قصة وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ، والتقطيع التفريق ، فيكون محمودا مثل وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا ، ويكون مذموما ، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع .

فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض .

و ( أمما ) جمع أمة بمعنى الجماعة ، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعا مذموما أي تفريقا بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل " شلمناصر " ملك بابل ، ونقلهم إلى جبال أنشور وأرض بابل سنة : 721 قبل الميلاد . ثم أسر " بختنصر " مملكة يهوذا وملكها سنة : 578 قبل الميلاد ، ونقل اليهود من " أرشليم " ولم يبق إلا الفقراء والعجز . ثم عادوا إلى أرشليم سنة : 530 وبنوا البيت المقدس إلى أن أجلاهم " طيطوس " الروماني وخرب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ .

ووصف الأمم بأنهم منهم الصالحون إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلوا بينها كما دل عليه قوله وبلوناهم بالحسنات والسيئات .

[ ص: 158 ] وشمل قوله ومنهم دون ذلك كل من لم يكن صالحا على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم .

و ( الصالحون ) هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته . وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلا قليلا منهم : الذين آمنوا به ، وزادوا بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعدم إيمانهم به ، بعدا عن الصلاح إلا نفرا قليلا منهم مثل عبد الله بن سلام ، ومخيريق .

وانتصب ( دون ذلك ) على الظرفية وصفا لمحذوف دل عليه قوله منهم أي ومنهم فريق دون ذلك ، ويجوز أن تكون ( من ) بمعنى بعض اسما عند من يجوز ذلك ، فهي مبتدأ ، و ( دون ) خبر عنه .

ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل ، وأنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل منهم الصالحون مثل " دانيال " وغيره ، ومنهم دون ذلك ؛ لأن التقسيم بمنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين .

وقوله وبلوناهم بالحسنات والسيئات أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر ، أو في الجزع والكفر ، بسبب الحسنات والسيئات ، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تحسن والتي تسوء ، كما تقدم في قوله فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلا للبلوى ، فالحسنات والسيئات من فعل الله - تعالى - ، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ، توزيعا لحال الضمير المنصوب في قوله بلوناهم .

وجملة ( لعلهم يرجعون ) استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ، على حسب الوجهين المتقدمين .

والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ، وهو معنى التوبة . هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى قطعناهم .

ويجوز عندي أن يكون قوله وقطعناهم في الأرض أمما ، عودا إلى أخبار المنن عليهم ، فيكون كالبناء على قوله وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ، [ ص: 159 ] فيكون تقطيعا محمودا . والمراد بالأرض : أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما للدلالة على أنهم عمروها كلها ، ويكون قوله منهم الصالحون إنصافا لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ، وقوله وبلوناهم إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية