الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة ، فأهل السنة كلهم ، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف ، متفقون على أن كلام الله غير مخلوق . ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم .

وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق ، ومرادهم أنه [ ص: 186 ] غير مختلق مفترى مكذوب ، بل هو حق وصدق ، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين .

والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقا خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته ؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا ، وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه . ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع - معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه ، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع .

ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة ، لم يكن بينهم نزاع ، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه ، فرق بها بينهم . وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ( البقرة : 176 ) .

والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وأن نوع كلامه قديم . وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر ، فإنه قال : والقرآن [ كلام الله ] في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق [ وكتابتنا له مخلوقة ، وقراءتنا له مخلوقة ] والقرآن غير مخلوق ، وما ذكره الله في [ ص: 187 ] القرآن [ حكاية ] عن موسى عليه السلام وغيره ، [ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ] وعن فرعون وإبليس - فإن ذلك [ كله ] كلام الله إخبارا عنهم ، [ كلام الله غير مخلوق ] وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا . انتهى . فقوله : ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته - يعلم منه أنه حين جاء كلمه ، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول يا موسى ، كما يفهم ذلك من قوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ( الأعراف : 143 ) ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء ، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره .

وقوله : الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول أنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلما .

وبالجملة : فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ، وأنه يتكلم شيئا بعد شيء ، فهو حق يجب قبوله . وما يقول به من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له . والصفة لا تقوم إلا بالموصوف : فهو حق يجب قبوله والقول به . فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، والعدول عما [ ص: 188 ] يرده الشرع والعقل من قول كل منهما .

فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به . قلنا : هذا القول مجمل ، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك ، ونصوص الأئمة أيضا ، مع صريح العقل .

ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه : أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، وأنه هو الذي تكلم به وقاله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى . ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه ، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذرا من التشبيه ، فلا يثبتوا صفة غيره ، فإنهم إذا قالوا : يعلم لا كعلمنا ، قلنا : ويتكلم لا كتكلمنا ، وكذلك سائر الصفات .

وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة ، أو حي لا تقوم [ ص: 189 ] به الحياة ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، فهل يقول عاقل أنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق ؟ بل هذا كقوله : أعوذ برضاك من سخطك . وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وكقوله : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . وكقوله : وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا . كل هذه من صفات الله تعالى .

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها ، وإنما أشير إليها هنا إشارة .

وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد ، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض في الحاصل في الدلالات ، لا في المدلول . وهذه العبارات مخلوقة ، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها ، فإن عبر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبر بالعبرية فهو توراة ، فاختلفت العبارات لا الكلام . قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا ! وهذا الكلام فاسد ، فإن لازمه أن معنى قوله : ولا تقربوا الزنا ( الإسراء : 32 ) ، هو معنى قوله : وأقيموا الصلاة ( البقرة : 43 ) ومعنى [ ص: 190 ] آية الكرسي هو معنى آية الدين ! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) . وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده ، وعلم أنه مخالف لكلام السلف . والحق : أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة ، وكلام الله تعالى لا يتناهى ، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء ، ولا يزال كذلك . قال تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( الكهف : 109 ) . وقال تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( لقمان : 27 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية