الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .

                                                                                                                                                                                                                                      بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلا للمؤمنين ، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار ، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلا لذوي المال والجاه من الكفار ، منكرا عليه كفره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواك رجلا ؟ لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة ، ثم تسويته إياه رجلا ، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وجعله بشرا سويا ، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] ، وقولـه تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ 36 \ 22 ] ، وقولـه تعالى : [ ص: 275 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين . . الآية [ 26 \ 76 - 79 ] ، وقولـه تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات ، ويظهرها من العدم إلى الوجود بما أغنى عن إعادته هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة : بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 38 ] ، معنى خلقه إياه من تراب : أي : خلق آدم الذي هو أصله من التراب ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 \ 59 ] ، ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه : ثم من نطفة ، أي : بعد أن خلق آدم من التراب ، وخلق حواء من ضلعه ، وجعلها زوجا له كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل ، فبعد طور التراب طور النطفة ، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله : وقد خلقكم أطوارا ، وقولـه تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث [ 39 \ 6 ] ، وقد أوضحها تعالى إيضاحا تاما في قوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يبين خلق الإنسان من تراب ، ثم من نطفة ، قوله تعالى في " السجدة " : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 6 - 9 ] ، وقولـه في هذه الآية : ثم سواك رجلا [ 18 \ 38 ] ، كقوله : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقولـه : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] ، أي : بعد أن كان نطفة سار إنسانا خصيما شديد الخصومة في توحيد ربه ، [ ص: 276 ] وقولـه : سواك ، أي : خلقك مستوي الأجزاء ، معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء في أكمل صورة ، وأحسن تقويم ، كقوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقولـه : وصوركم فأحسن صوركم [ 40 \ 64 ] ، وقولـه : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ 82 \ 6 ] ، وقولـه " رجلا " أي : ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، وربما قالت العرب للمرأة : رجلة ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      كل جار ظل مغتبطـا غير جيران بني جبله     مزقوا ثوب فتاتــهم
                                                                                                                                                                                                                                      لم يراعوا حرمة الرجله

                                                                                                                                                                                                                                      وانتصاب " رجلا " على الحال ، وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلا . وقيل : هو تمييز ، وليس بظاهر عندي ، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله : أكفرت بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 37 ] ، مضمن معنى الاستبعاد ; لأنه يستبعد جدا كفر المخلوق بخالقه ، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، ويستبعد إنكار البعث ممن علم أن الله خلقه من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواه رجلا ; كقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب . . الآية [ 22 \ 5 ] ، ونظير الآية في الدلالة على الاستبعاد لوجود موجبه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة     يرى غمرات الموت ثم يزورها

                                                                                                                                                                                                                                      لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا [ 18 \ 38 ] ، بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر : أنت كافر ؟ ! لكن أنا لست بكافر ! بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني ; أي : لأنه هو الذي يستحق مني أن أعبده ; لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه ، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني .

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في " يس " في قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني [ 36 \ 22 ] ، أي : أبدعني وخلقني وإليه ترجعون ، وما قدمنا عن إبراهيم في قوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين . . الآية [ 26 \ 77 - 78 ] ، وقولـه : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية [ 43 \ 26 - 27 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 277 ] وقولـه في هذه الآية الكريمة : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، بعد قوله : وما أظن الساعة قائمة ، يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى ، وقد صرح بذلك في أول سورة " الرعد " في قوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة : لكنا أصله " لكن أنا " فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " في نون " أنا " بعد حذف الهمزة ، وقال بعضهم : نقلت حركة الهمزة إلى نون " لكن " فسقطت الهمزة بنقل حركتها ، ثم أدغمت النون في النون ! ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      وترمينني بالطرف أي أنت مذنب     وتقلينني لكنا إياك لم أقل

                                                                                                                                                                                                                                      أي لكن أنا إياك لم أقل ، وقال بعضهم : لا يتعين في البيت ما ذكر ; لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم " لكن " كقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي     ولكن زنجي عظيم المشافر

                                                                                                                                                                                                                                      أي : لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع ، وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من " لكن أنا " قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      لهنك من عبسية لوسيمة     على هنوات كاذب من يقولها

                                                                                                                                                                                                                                      قال : أراد بقوله " لهنك " لله إنك ، فحذف إحدى اللامين من " لله " ، وحذف الهمزة من " إنك " نقله القرطبي عن أبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه تعالى : لكنا هو الله ربي ، قرأه جماهير القراء في الوصل " لكن " ، بغير ألف بعد النون المشددة ، وقرأه ابن عامر من السبعة " لكنا " بالألف في الوصل ، ويروى ذلك عن عاصم ، ورواه المسيبي عن نافع ، ورويس عن يعقوب ، واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف . ومد نون " أنا " لغة تميم إن كان بعدها همزة . وقال أبو حيان في البحر : إن إثبات ألف " أنا " مطلقا في الوصل لغة بني تميم ، وغيرها يثبتونها على الاضطرار ، قال : فجاءت قراءة " لكنا " بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم ، ومن شواهد مد " أنا " قبل غير الهمزة قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 278 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أنا سيف العشيرة فاعرفوني     حميدا قد تذريت السناما

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      فكيف أنا وانتحال القوافي     بعد المشيب كفى ذاك عارا

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله في هذه الآية الكريمة : وهو يحاوره جملة حالية ، والمحاورة : المراجعة في الكلام : ومنه قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما [ 58 \ 1 ] ، وقول عنترة في معلقته :


                                                                                                                                                                                                                                      لو كان يدري ما المحاورة اشتكى     ولكان لو علم الجواب مكلمي

                                                                                                                                                                                                                                      وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائهما ، ومن أي الناس هما أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقا من عدم الفائدة فيه ، وعدم الدليل المقنع عليه . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية