الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الرد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا فضل المال عن حقوق أصحاب الفرائض وليس هناك عصبة من جهة النسب ، ولا من جهة السبب فإنه يرد ما بقي عليهم على قدر أنصبائهم إلا الزوج والزوجة وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه يرد على الزوج والزوجة أيضا كما يرد على غيرهم من أصحاب الفرائض وهو قول جابر بن يزيد وقال عبد الله بن مسعود الرد على أصحاب الفرائض إلا على ستة نفر الزوج والزوجة وابنة الابن مع ابنة الصلب والأخت لأب مع الأخت لأب وأم وأولاد الأم مع الأم [ ص: 193 ] والجدة مع ذي سهم أيا كان وهو قول أحمد بن حنبل وقال زيد بن ثابت لا يرد على أحد من أصحاب الفرائض شيء بعد ما أخذوا فرائضهم ، ولكن نصيب الباقي لبيت المال وهو رواية عن ابن عباس وبه أخذ الشافعي وعن ابن عباس في رواية قال يرد على أصحاب الفرائض لا على ثلاثة نفر الزوج والزوجة والجدة ، ثم الرد على قول علي وهو مذهبنا يكون بطريقين أحدهما بأن يعطون فرائضهم أولا ، ثم يرد الباقي عليهم بقدر فرائضهم فتكون القسمة مرتين والأخرى أنه ينظر إلى مقدار فرائضهم فيقسم جميع المال بينهم على ذلك قسمة واحدة ، وهذا هو الأصح لأنه أبعد عن التطويل وبيانه فيما إذا ترك أختا لأب وأم وأما فعلى الطريق الأول القسمة الأولى من ستة على مقدار فريضتهما فتكون على خمسة وستة على خمسة لا يستقيم فيضرب ستة في خمسة فتكون ثلاثين منه تصح .

وعلى الآخر يقسم المال كله بينهما على خمسة ثلاثة أخماسه للأخت وخمساه للأم ، وهذا إذا لم يخالطهم من لا يرد عليه فإن خالطهم من لا يرد عليه فحينئذ لا بد من اعتبار القسمتين وبيانه إذا تركت امرأة زوجا وأما وابنة فللزوج الربع وللابنة النصف وللأم السدس بقي سهم من اثني عشر وهو نصف سدس فيرد على الابنة والأم دون الزوج ، وإنما يرد عليهما أرباعا فيحتاج إلى أن تضرب اثني عشر في أربعة فيكون ثمانية وأربعين للزوج الربع ، وذلك اثنا عشر ، ثم الباقي وهو ستة وثلاثون بين الأم والابنة للابنة ثلاثة أرباعها ، وذلك سبعة وعشرون وللأم ربعها وذلك تسعة وعلى الطريق الآخر يطلب حساب له ربع ولثلاثة أرباعه ربع وأقل ذلك ستة عشر فيعطى الزوج الربع ، وذلك أربعة يبقى اثنا عشر للابنة ثلاثة أرباعها تسعة وللأم ربعها ثلاثة فمن أصحابنا رحمهم الله من جعل هذه المسألة بناء على مسألة ذوي الأرحام فإن الرد يكون باعتبار الرحم ولهذا لا يرد على من لا رحم له وهو الزوج والزوجة ومن أصلنا أن الميراث يستحق بالرحم ، وأن ذوي الأرحام يقدمون على بيت المال . فكذلك أصحاب الفرائض فيما بقي يقدمون على بيت المال بالرحم .

وعلى قول الشافعي ذوو الأرحام لا يستحقون شيئا ، ولكن يصرف المال لبيت المال إذا لم يكن هناك صاحب فرض ، ولا عصبة . فكذلك إذا فضل عن حقوق أصحاب الفرائض وليس هناك عصبة قلنا بأنه يجعل ما بقي في بيت المال فالحجة لمن أبى الرد آية المواريث فإن الله تعالى بين نصيب كل واحد من أصحاب الفرائض والتقدير الثابت بالنص يمنع الزيادة عليه لأن في الزيادة مجاوزة الحد الشرعي ، وقد قال الله تعالى بعد آية المواريث { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده } الآية [ ص: 194 ] فقد ألحق الوعيد بمن جاوز الحد المشروع ، وفي الرد عليهم زيادة على ما قدر لكل واحد منهم ، ثم الرد إنما يكون باعتبار الفريضة أو العصوبة ، أو الرحم لا يجوز أن يكون باعتبار الفريضة لأنه وصل إلى كل واحد منهم مقدار ما فرض له ، ولأنه لا يرد على الزوج والزوجة والفريضة لهما ثابتة بالنص ، ولا يجوز أن يكون باعتبار العصوبة لأن باعتبار العصوبة يقدم الأقرب فالأقرب ، وفي الرد لا يقدم الأقرب وكذلك الاستحقاق بالرحم في معنى الاستحقاق بالعصوبة يقدم فيه الأقرب فإذا بطلت الوجوه صح أن القول بالرد باطل ، وأن ما زاد على حق أصحاب الفرائض لا يستحق له من الورثة فيصرف إلى بيت المال ، ولا يقال إن المسلمين يستحقون ذلك بالإسلام فأصحاب الفرائض ساووا المسلمين في الإسلام ويرجحوا بالقرابة لأن وصلة الإسلام بانفراد بناء على الاستحقاق كوصلة القرابة والترجيح لا يصلح بكثرة العلة وأما ابن مسعود قال الرد باعتبار الرحم والاستحقاق بالرحم إنما يكون بمعنى العصوبة فيعتبر ذلك بالاستحقاق الثابت بحقيقة العصوبة فلا يثبت ذلك للزوج والزوجة لأن العصوبة باعتبار القرابة ، أو ما يشبه القرابة في كونه باقيا عند استحقاق الميراث كالولاء والزوجية ليست بهذه الصفة لأنها ترتفع بموت أحدهما إلا أن استحقاق الفرضية بها كان بالنص ففيما وراء المنصوص لا يثبت الاستحقاق لانعدام السبب عند الاستحقاق .

وكذلك لا يرد على ابنة الابنة مع الابنة لأنهما في الرد بمنزلة الابن وابن الابن فيكون الأقرب مقدما وكذلك لا يرد على الأخت لأب مع الأخت لأب وأم لأنهما بمنزلة الأخ لأب مع الأخ لأب وأم وكذلك لا يرد على أولاد الأم مع الأم كما لا تثبت العصوبة لأولاد الأب مع الأب ، ولا يرد على الجدة مع ذي سهم لأنها تدلي بالأنثى والإدلاء بالأنثى ليس بسبب لاستحقاق العصوبة بحال ، وقد بينا أن سبب الاستحقاق في حق الجدة ضعيف فلا تثبت المزاحمة بينها وبين من كان سببه قويا في المستحق بالرد . فأما علماؤنا رحمهم الله احتجوا بقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } معناه بعضهم أولى بميراث بعض بسبب الرحم فهذه الآية توجب استحقاق جميع الميراث لكل واحد منهم يوصله الرحم والآية التي فيها ذكر الفريضة توجب استحقاق جزء معلوم من المال لكل واحد منهما بالوصف المذكور فيعمل بالآيتين ويجعل لكل واحد منهم فريضة بإحدى الآيتين ، ثم يجعل ما بقي مستحقا لهم بسبب الرحم بالآية الأخرى ولهذا لا يرد على الزوج والزوجة لانعدام الرحم في حقهما فلا يكون هذا مجاوزة ولئن كان فهو زيادة على النص وذلك جائز ، ثم كما لا تجوز الزيادة [ ص: 195 ] على الحد المحدود شرعا لا يجوز النقصان عنه وبالإجماع ينتقص حق كل واحد منهم عما سمي له عند العول وكان ذلك جائزا لأن فيه عملا بالنصوص بحسب الإمكان وكذلك الرد .

ولما { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن أبي وقاص يعوده قال أما إنه لا يرثني إلا ابنة لي فأوصي بجميع مالي الحديث إلى أن قال عليه الصلاة والسلام الثلث والثلث كثير } فقد اعتقد سعد أن الابنة تكون وارثة في جميع المال ولم ينكر ذلك عليه رسول الله ، ثم منعه عن الوصية بما زاد على الثلث مع أنه لا وارث له إلا ابنة واحدة فلو كانت لا تستحق الزيادة على النصف بالرد لجوز له الوصية بنصف المال ، وفي حديث عمرو بن شعيب عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث الملاعنة من أمها } أي ورثها جميع المال ، ولا يكون ذلك إلا بطريق الرد ، وفي حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لوعنت به } والمعنى فيه أن استحقاق الميراث بطريق الولاية لأن الولاية خلافة والوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا حتى إن ما يقطع الولاية كالرق واختلاف الدين يمنع التوارث ولهذا يرث المسلم الكافر بالسبب العام دون السبب الخاص لأن الولاية تثبت للمسلم على الكافر بالسبب العام دون السبب الخاص ولا يرث الكافر المسلم بحال لأن الولاية لا تثبت للكافر على المسلم بحال ، ولا يدخل عليه استحقاق الصبي والمجنون الإرث وإن لم يكونا من أهل الولاية لأنه إنما انعدم في حق الصبي والمجنون الأهلية للمباشرة والتصرف ، وما انعدمت الأهلية للملك والوارثة خلافه في الملك ، ثم وليهما يقوم مقامهما في التصرف فلا يتمكن بسبب الصغر والجنون خلل فيما به تثبت ولاية الإرث إذا ثبت أن الاستحقاق بطريق الولاية قلنا الأقارب ساووا المسلمين في الإسلام وترجحوا بالقرابة لأن استحقاقهم باعتبار معنى العصوبة ومجرد القرابة في حق أصحاب الفرائض لا تكون علة للعصوبة فثبت بها الترجيح بمنزلة قرابة الأم في حق الأخ لأب وأم فإن الترجيح يحصل به لأنه لا يستحق به العصوبة بانفراده وإذا ترجحوا بقوة السبب في حقهم كانوا أولى بما بقي من سائر المسلمين إلا أن هذا الترجيح بالسبب الذي هو به استحقوا الفريضة فيكون سببا على تلك الفريضة فكما أن أصل الفريضة يسقط باعتبار الأقرب فالأقرب من السبب . فكذلك في الاستحقاق بالرد فيسقط اعتبار ذلك فيرد على أهل القرابة جميعا على قدر أنصبائهم ، ثم الحاصل أن الرد به على سبعة نفر الابنة وابنة الابن والأم والجدة والأخت لأب وأم والأخت لأب وولد الأم ذكرا كان ، أو أنثى ، وقد يكون الرد على واحد منهم ، وقد [ ص: 196 ] يكون على اثنين ، وقد يكون على ثلاثة ، وقد يكون على أربعة إلا أن في الأربعة واحدا مما لا يرد عليه لا محالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية