الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1619 (باب التسليم على أهل القبور، والترحم عليهم، والدعاء لهم)

                                                                                                                              وذكره النووي في (كتاب الجنائز) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 42 - 44 ج7 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب، أنه قال يوما: ألا أحدثكم عني وعن أمي؟

                                                                                                                              قال: فظننا أنه يريد أمه، التي ولدته.

                                                                                                                              قال: قالت عائشة : ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

                                                                                                                              قلنا: بلى.

                                                                                                                              قال: قالت: لما كانت ليلتي، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب: فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه. وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع. فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج. ثم أجافه رويدا. [ ص: 403 ] فجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع. فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: "ما لك يا عائش! حشيا رابية؟".

                                                                                                                              قالت: قلت: لا شيء. قال: "لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير."

                                                                                                                              قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي! فأخبرته. قال: "فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟".

                                                                                                                              قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!" قالت: -مهما يكتم الناس يعلمه الله- نعم.

                                                                                                                              قال: "فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني. فأخفاه منك فأجبته: فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي".

                                                                                                                              فقال: "إن ربك يأمرك: أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم".

                                                                                                                              قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا -إن شاء الله- بكم للاحقون.
                                                                                                                              "]

                                                                                                                              [ ص: 404 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 404 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب؛ أنه قال يوما: ألا أحدثكم عني وعن أمي؟!) .

                                                                                                                              وفي مسلم لهذا الحديث إسنادان:

                                                                                                                              والإسناد الثاني: (وحدثني من سمع حجاجا الأعور -واللفظ له- قال: حدثنا حجاج بن محمد قال: (نا) ابن جريج: أخبرني عبد الله "رجل من قريش" . وكذا رواه أحمد.

                                                                                                                              وقال النسائي، وأبو نعيم الجرجاني، وأبو بكر النيسابوري. كلهم (عن يوسف بن سعيد المصيصي: حدثنا حجاج عن ابن جريج) ، أخبرني عبد الله بن أبي مليكة.

                                                                                                                              وقال الدارقطني: هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة.

                                                                                                                              قال أبو علي الغساني الجياني: هذا الحديث، أحد الأحاديث المقطوعة في مسلم.

                                                                                                                              قال: وهو أيضا من الأحاديث، التي وهم في رواتها.

                                                                                                                              وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج؛ قال: أخبرني محمد [ ص: 405 ] ابن قيس بن مخرمة أنه سمع عائشة .

                                                                                                                              قال عياض : قوله: إن هذا مقطوع، لا يوافق عليه. بل هو مسند، وإنما لم يسم رواته. فهو من باب المجهول، لا من باب المنقطع؛ إذ المنقطع ما سقط من رواته راو، قبل التابعي.

                                                                                                                              قال النووي : ولا يقدح رواية مسلم لهذا الحديث، عن هذا المجهول الذي سمعه من حجاج الأعور؛ لأن مسلما ذكره متابعة، لا متأصلا معتمدا عليه. بل الاعتماد على الإسناد الصحيح قبله.

                                                                                                                              (قال: فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال: قالت عائشة ) .

                                                                                                                              وفي طريق أخرى عند مسلم: عن عبد الله بن كثير بن المطلب، أنه سمع محمد بن قيس يقول: سمعت عائشة تحدث، فقالت:

                                                                                                                              (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) .

                                                                                                                              وفي الطريق الأخرى: (عن النبي صلى الله عليه وسلم وعني) .

                                                                                                                              (قلنا: بلى. قال: قالت: لما كانت ليلتي، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 406 ] فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما) بفتح الراء وإسكان الياء. وبعدها ثاء.

                                                                                                                              أي: قدر ما (ظن أن قد رقدت. فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب رويدا) . أي: قليلا لطيفا؛ لئلا ينبهها.

                                                                                                                              (فخرج ثم أجافه) بالجيم. أي: أغلقه (رويدا) .

                                                                                                                              وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم في خفية، لئلا يوقظها، ويخرج عنها. فربما لحقها وحشة، في انفرادها في ظلمة الليل.

                                                                                                                              (فجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري) هكذا في الأصول: (إزاري) بغير باء في أوله.

                                                                                                                              وكأنه بمعنى: "لبست إزاري". فلهذا عدي بنفسه.

                                                                                                                              (ثم انطلق على إثره، حتى جاء البقيع. فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات) .

                                                                                                                              فيه: استحباب إطالة الدعاء وتكريره، ورفع اليدين فيه.

                                                                                                                              وفيه: أن دعاء القائم أكمل من دعاء الجالس، في القبور.

                                                                                                                              (ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت) .

                                                                                                                              "الإحضار": العدو.

                                                                                                                              [ ص: 407 ] (فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: "ما لك يا عائش؟!") .

                                                                                                                              يجوز فيه فتح الشين وضمها. وهما وجهان جاريان، في كل المرخمات.

                                                                                                                              وفيه: جواز ترخيم الاسم، إذا لم يكن فيه إيذاء للمرخم.

                                                                                                                              (حشيا) بفتح الحاء وإسكان الشين المعجمة، مقصور. معناه: وقد وقع عليك الحشا. وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه، والمحتد في كلامه، من ارتفاع النفس وتواتره.

                                                                                                                              يقال: امرأة حشياء وحشية، ورجل حشيان وحشش. قيل: أصله من: (أصاب الربو حشاه) .

                                                                                                                              (رابية) أي: مرتفعة البطن.

                                                                                                                              (قالت: قلت: لا شيء) . ووقع في بعض الأصول: (لا بي شيء) بباء الجر.

                                                                                                                              وفي بعضها: (لأي شيء؟) على الاستفهام. وفي بعضها: (لا شيء) .

                                                                                                                              قال عياض : وهذا الثالث (لا شيء) : أصوبها.

                                                                                                                              (قال: "لتخبرني، أو ليخبرني اللطيف الخبير". قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! فأخبرته. قال: "فأنت السواد الذي [ ص: 408 ] رأيته أمامي"؟) أي: الشخص. (قلت: نعم. فلهدني) بفتح الهاء والدال. وروي: (فلهزني) بالزاي. وهما متقاربان.

                                                                                                                              قال أهل اللغة: لهده ولهده، بتخفيف الهاء وتشديدها. أي: دفعه.

                                                                                                                              ويقال: لهزه. إذا ضربه بجمع كفه في صدره. ويقرب منهما: لكزه، ووكزه.

                                                                                                                              (في صدري، لهدة أوجعتني، ثم قال: " أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟" قالت: -مهما يكتم الناس يعلمه الله-نعم) .

                                                                                                                              هكذا في الأصول. وهو صحيح. وكأنها لما قالت: (مهما يكتم الناس يعلمه الله) صدقت نفسها، فقالت: نعم.

                                                                                                                              قال: ("فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت، فناداني: فأخفاه منك. فأجبته فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك.

                                                                                                                              وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي.

                                                                                                                              فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم". قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال: "قولي: السلام على أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين. ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين. وإنا -إن شاء الله- بكم اللاحقون ") .

                                                                                                                              فيه: استحباب هذا القول، لزائر القبور.

                                                                                                                              [ ص: 409 ] وفيه: ترجيح لقول من قال في قوله: سلام عليكم دار قوم مؤمنين) : أن معناه: أهل دار قوم.

                                                                                                                              وفيه: أن المسلم والمؤمن، قد يكونان بمعنى واحد. وعطف أحدهما على الآخر، لاختلاف اللفظ.

                                                                                                                              وهو معنى قوله تعالى:

                                                                                                                              فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين .

                                                                                                                              قال النووي : ولا يجوز أن يكون المراد (بالمسلم) في هذا الحديث، غير المؤمن؛ لأن المؤمن إن كان منافقا، لا يجوز السلام عليه والترحم.

                                                                                                                              قال: وفيه: دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور. وفيها خلاف للعلماء، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا:

                                                                                                                              "أحدها": تحريمها عليهن، لحديث: "لعن الله زوارات القبور".

                                                                                                                              "والثاني": يكره.

                                                                                                                              "والثالث": يباح. ويستدل له بهذا الحديث. وبحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ".

                                                                                                                              ويجاب عن هذا، بأن "نهيتكم" ضمير ذكور، فلا يدخل فيه النساء، على المذهب الصحيح المختار في الأصول. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 410 ] قلت: وتقدم ما في هذه القاعدة، في حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور) . أخرجه ابن ماجة، والحاكم، والأثرم في سننه.

                                                                                                                              وهذا لا ينافي حديث "الزوارات"، لكونه يحتمل أن يكون "اللعن" على كثيرة الزيارة، والرخصة لمن يزرن أحيانا.

                                                                                                                              قال الشوكاني "رحمه الله" في "وبل الغمام": استدل للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة؛ وغير خاف على عارف بالأصول، أن الأحاديث الواردة، في النهي للنساء عن الزيارة، والتشديد في ذلك حتى "لعن صلى الله عليه وآله وسلم من فعلت ذلك". بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز. فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى.

                                                                                                                              وشدد في ذلك حتى قال للبتول رضي الله عنها: "لو بلغت معهم" يعني- أهل الميت- "الكدي، ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك":

                                                                                                                              فهذه الأحاديث، مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة.

                                                                                                                              لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخرى:

                                                                                                                              منها: ما أخرجه مسلم عن عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها كيف تقول، إذا زارت القبور) .

                                                                                                                              [ ص: 411 ] ومنها: ما أخرجه البخاري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي على قبر، ولم ينكر عليها الزيارة) .

                                                                                                                              قال القرطبي: "اللعن" المذكور في الحديث، إنما هو للمتكثرات من الزيارة، لما تقتضيه الصيغة من المبالغة. يعني: لفظ "زوارات".

                                                                                                                              قال: ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك، من تضييع حق الزوج. انتهى.

                                                                                                                              والأحاديث في أدعية الزائر للقبور كثيرة، منها: حديث عائشة بلفظ:

                                                                                                                              (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم-، يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما توعدون غدا. مؤجلون. وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) .

                                                                                                                              وفي حديث بريدة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم، إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: "السلام على أهل الديار) ،

                                                                                                                              وفي رواية: "السلام عليكم أهل الديار! من المؤمنين والمسلمين، وإنا -إن شاء الله- للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية "

                                                                                                                              وفي هذه الأحاديث، دليل على استحباب زيارة القبور للرجال، والسلام على أهلها، والدعاء لهم، والترحم عليهم.

                                                                                                                              قال الخطابي: فيه: أن السلام على الأموات والأحياء سواء: في تقديم "السلام" على "عليكم". بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم:

                                                                                                                              [ ص: 412 ]

                                                                                                                              عليك سلام الله قيس بن عاصم! ورحمته ما شاء أن يترحما

                                                                                                                              .

                                                                                                                              انتهى.

                                                                                                                              (والبقيع) هنا بالياء بلا خلاف: وهو مدفن أهل المدينة.

                                                                                                                              سمي "بقيع الغرقد"، لغرقد كان فيه. وهو ما عظم من العوسج.

                                                                                                                              وفيه: إطلاق لفظ الأهل، على ساكن المكان: من حي وميت.

                                                                                                                              وحاصل المسألة: أن الزيارة للقبور "سنة" ثابتة قائمة. تذكر الزائر الموت والآخرة. وهذا معظم مقصودها، وغاية فعلها.

                                                                                                                              ومن زار قبرا، أي قبر كان، وفعل ما لم يرد به دليل: من كتاب وسنة صحيحة، فقد خالف السنة المطهرة، وعكس القضية.

                                                                                                                              وقد حدثت منذ عصور طويلة عريضة، في هذه الأمة، في زيارتها: بدع وإشراك، لا يدل عليها دليل ضعيف، فضلا عن صحيح، فأفضت بأصحابها إلى الوقوع في هوة الكفر. وصنعوا بالقبور من الزخرفة، والاستعانة والاستغاثة بأهلها، ما جلب عليهم اللعنة من الله "سبحانه" ورسوله.

                                                                                                                              وتعديد ما في الباب، يقتضي طولا طويلا.

                                                                                                                              وفي ما ألف في ذلك خاصة، وفي الرد على عابدي القبور، وزائري المقبور، وأفعالهم، وصنائعهم المخالفة للمأثور مقنع وبلاغ، وكفاية، وهداية.

                                                                                                                              [ ص: 413 ] فراجع: إلى تلك الرسائل والمسائل؛ (كالدر النضيد، في إثبات التوحيد.

                                                                                                                              وتطهير الاعتقاد، عن درن الإلحاد. ونحوهما) : يتجلى عليك أنوار الحق، من كوة القلب المنيب. وبالله التوفيق.




                                                                                                                              الخدمات العلمية