الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 182 ] 56 - باب

                                إمامة المفتون والمبتدع

                                وقال الحسن : تصلي وعليه بدعته .

                                663 695 - وقال لنا محمد بن يوسف : حدثنا الأوزاعي ، ثنا الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبيد الله بن عدي بن خيار ، أنه دخل على عثمان بن عفان ، وهو محصور ، فقال : إنك إمام عامة ، ونزل بك ما ترى ، ويصلي لنا إمام فتنة ، ونتحرج ، فقال : الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم .

                                وقال الزبيدي : قال الزهري : لا نرى أن يصلى خلف المخنث إلا من ضرورة لا بد منها .

                                664 696 - حدثني محمد بن أبان ، ثنا غندر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي التياح ، سمع أنس بن مالك يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : ( اسمع وأطع ، ولو لحبشي ، كأن رأسه زبيبة ) .

                                التالي السابق


                                ما ذكره عن الحسن رواه سعيد بن منصور ، ثنا ابن المبارك ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، أنه سئل عن صاحب البدعة : الصلاة خلفه ؟ قال : صل خلفه ، وعليه بدعته .

                                وخرجه حرب ، عن سعيد بن منصور ، به .

                                وخرج - أيضا - بإسناده ، عن جعفر بن برقان ، قال : سألت ميمون بن [ ص: 183 ] مهران عن الصلاة خلف من يذكر أنه من الخوارج ؟ فقال : إنك لا تصلي له ، إنما تصلي لله ، قد كنا نصلي خلف الحجاج وهو حروري أزرقي ، فنظرت إليه ، فقال : أتدري ما الحروري الأزرقي ، هو الذي إذا خالفت آية سماك كافرا ، واستحل دمك ، وكان الحجاج كذلك .

                                وروى أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) : ثنا سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : كان يكون أمراء على المدينة ، فسئل ابن عمر عن الصلاة معهم ، فقال : الصلاة لا أبالي من شاركني فيها .

                                وروى أبو شهاب : ثنا يونس بن عبيد ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يسلم على الخشبية والخوارج وهم يقتتلون ، فقال : من قال : ( حي على الصلاة ) أجبته ، ومن قال : حي على الفلاح ، أجبته ، ومن قال : حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله ، قلت : لا ، خرجه البيهقي .

                                وروى عن ابن عمر من وجوه أنه كان يصلي خلف الحجاج .

                                وذكر البخاري في ( تاريخه ) : قال لنا عبد الله ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الكريم البكاء ، قال : أدركت عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور .

                                وخرج أبو داود من حديث مكحول ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، برا كان أو فاجرا ، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم ، برا كان أو فاجرا ) .

                                [ ص: 184 ] وهذا منقطع ؛ مكحول لم يسمع من أبي هريرة .

                                وقد أنكر أحمد هذا ، ولم يره صحيحا .

                                قال مهنا : سألت أحمد عن الصلاة خلف كل بر وفاجر ؟ قال : ما أدري ما هذا ، ولا أعرف هذا ، ما ينبغي لنا أن نصلي خلف فاجر ، وأنكر هذا الكلام .

                                وقال يعقوب بن بختان : سئل أحمد عن الصلاة خلف كل بر وفاجر ؟ قال : ما سمعنا بهذا .

                                وأما الأثر الذي ذكره البخاري عن عثمان : فرواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن عثمان ، فخالف معمر الأوزاعي في إسناده .

                                وذكر الدارقطني أن الزبيدي والنعمان بن راشد وأبا أيوب الأفريقي ، رووه ، عن الزهري كما رواه عنه الأوزاعي .

                                وخالفهم شعيب بن أبي حمزة وإسحاق بن راشد وعبيد الله بن أبي زياد ، فرووه عن الزهري ، عن عروة ، عن عبيد الله بن عدي .

                                وكذلك قال عبد الواحد بن زياد وغندر ، عن معمر .

                                وقال محمد بن ثور : عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عدي ، لم يذكر بينهما أحدا .

                                وأرسله حماد بن زيد عن معمر ، عن الزهري ، وتابعه جعفر بن برقان ، عن الزهري .

                                قال : وحديث حميد بن عبد الرحمن هو المحفوظ ، قال : ولا يدفع حديث عروة أن يكون الزهري حفظ عنهما جميعا .

                                [ ص: 185 ] ورواه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي ، حدث به محمد بن إسحاق عنه . انتهى .

                                وأما ما ذكره عن الزبيدي ، عن الزهري ، أنه لا يصلى خلف المخنث إلا أن لا يجد منه بدا .

                                فالمخنث : هو الذي يتشبه بالنساء في هيئته وكلامه .

                                وكلام الزهري هذا يدل على أنه إذا اضطر إلى الصلاة خلف من يكره صلى وراءه .

                                وقال مسرور بن محمد : قال الأوزاعي : لا تصل خلف قدري ؛ إلا أن تضطر .

                                وقال بقية بن الوليد : سألت الزبيدي : هل يصلى خلف صاحب بدعة أو مكذب بالقدر ؟ فقال : إن كان واليا فليس من الأمر في شيء ، وأنت في عذر ، وإن لم يكن واليا فلا تصل خلفه .

                                وكره آخرون الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور .

                                روى بقية بن الوليد : ثنا حبيب بن عمر الأنصاري ، عن أبيه ، قال : سمعت واثلة بن الأسقع يقول : لو صليت خلف قدري لأعدت صلاتي .

                                خرجه حرب الكرماني .

                                وخرج - أيضا - من طريق نوح بن جعونة ، ثنا عبد الكريم ، قال : قال ابن عباس : لأن أصلي خلف جيفة حمار أحب إلي من أن أصلي خلف قدري .

                                وفي كلا الإسنادين ضعف .

                                وروى عن أبي جعفر محمد بن علي ، أنه أمر بإعادة الصلاة خلف القدري .

                                وكذلك سفيان .

                                [ ص: 186 ] وفرقت طائفة بين البدع المغلظة وغيرها .

                                فقال أبو عبيد فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي : يعيد ، ومن صلى خلف قدري أو مرجئ أو خارجي : لا آمره بالإعادة .

                                وكذلك الإمام أحمد ، قال في الصلاة خلف الجهمية : إنها تعاد .

                                والجهمي عنده من يقول : القرآن مخلوق ؛ فإنه كافر ، أو يقف ولا يقول : مخلوق ولا غير مخلوق ، ونص أنه تعاد الصلاة خلفه - أيضا - ، وقال : لا يصلى خلف من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، وهو جهمي .

                                وقال : لا يصلى خلف القدري إذا قال : لا يعلم الشيء حتى يكون ، فهذا كافر ، فإن صلى يعيد .

                                وقال - أيضا - في القدري : إذا كان داعيا مخاصما تعاد الصلاة خلفه .

                                وهذا محمول على من لا ينكر منهم العلم القديم .

                                وقال في الخوارج إذا تغلبوا على بلد : صلي خلفهم .

                                وقال - مرة - : يصلى خلفهم الجمعة ؛ صلى ابن عمر خلف نجدة الحروري .

                                وقال في الرافضي الذي يتناول الصحابة : لا يصلى خلفه .

                                وقال فيمن يقدم عليا على أبي بكر وعمر : إن كان جاهلا لا علم له فصلى خلفه فأرجو أن لا يكون به بأس ، وإن كان يتخذه دينا فلا تصل خلفه .

                                وقال في المرجئ - وهو : من لا يدخل الأعمال في الإيمان - : إن كان داعيا فلا يصلى خلفه .

                                وقال في الصلاة خلف أهل الأهواء : إذا كان داعية ويخاصم في بدعته فلا يصلى خلفه ، وإلا فلا بأس .

                                وهذا محمول على البدع التي لا يكفر صاحبها ، فأما ما يكفر صاحبه فتعاد [ ص: 187 ] الصلاة خلفه ، كما تقدم عنه .

                                قال حرب : قلت لأحمد : فتكره الصلاة خلف أهل البدع كلهم ؟ فقال : إنهم لا يستوون .

                                وأما الصلاة خلف الفساق ، فقال أحمد - فيمن يسكر - : لا يصلى خلفه ، وفيمن ترك شيئا من فرائض الإسلام أو تعامل بالربا : لا يصلى خلفه ، ولا خلف من كل بيعه عينة - يعني : نسأة - ، ولا خلف من يكثر كذبه .

                                وسئل عن الصلاة خلف من يغتاب الناس ؟ فقال : لو كان كل من عصى الله لا يصلى خلفه ، متى كان يقوم الناس على هذا ؟

                                وفرق - مرة - بين المستتر والمعلن .

                                قال أحمد بن القاسم : سئل أحمد عن الصلاة خلف من لا يرضى ؟ قال : قد اختلف فيه ؛ فإن كان لا يظهر أمره في منكر أو فاحشة بينة أو ما أشبه ذلك فليصل .

                                وفرق - مرة - بين الصلاة خلف الأمراء وغيرهم .

                                قال الميموني : سمعت أحمد قال : إذا كان الإمام من أئمة الأحياء يسكر فلا أحب أن أصلي خلفه البتة ؛ لأن لي اختيار الأئمة ، وليس هو والي المسلمين ؛ لأن ابن عمر سئل عن الصلاة خلف الأمراء ؟ فقال : إنما هي حسنة ، لا أبالي من شركني فيها .

                                ولهذا المعنى لم يختلف في حضور الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر .

                                والمشهور عنه : إعادتها خلف الفاجر ، فإن كان يكفر ببدعته ففي حضورها معه روايتان ، ومع حضورها يعيدها ظهرا .

                                وحكي عنه : لا يعيد .

                                [ ص: 188 ] واختلف أصحابنا في حكاية المذهب في الإعادة خلف الفاسق ؛ فمنهم من قال : في الإعادة روايتان مطلقا .

                                ومنهم من قال : إن لم يعلم فسقه فلا إعادة ، وإن علم ففي الإعادة روايتان .

                                ومنهم من قال : إن كان مستترا لم يعد ، وإن كان متظاهرا ففي الإعادة روايتان .

                                فأما من يكفر ببدعته فحكمه حكم الكفار .

                                ولذلك فرق إسحاق بن راهويه بين القدري والمرجئ ، فقال في القدري : لا يصلى خلفه ، وقال في المرجئ : إن كان داعية لم يصل خلفه .

                                وقال حرب : ثنا ابن أبي حزم القطعي ، ثنا معاذ بن معاذ ، ثنا أشعث ، عن الحسن ، في السكران يؤم القوم ؟ قال : إذا أتم الركوع والسجود فقد أجزأ عنهم .

                                وقال محمد بن سيرين : يعيدون جميعا ، والإمام .

                                وحكى ابن المنذر ، عن مالك ، أنه قال : لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم ، ويصلى خلف أئمة الجور .

                                وعن الشافعي : أنه يجيز الصلاة خلف من أقام الصلاة ، وإن كان غير محمود في دينه .

                                اختار ابن المنذر هذا القول ، ما لم تخرجه بدعته إلى الكفر .

                                وفي ( تهذيب المدونة ) : تجزئ الجمعة وغيرها خلف من ليس بمبتدع من الولاة ، وإذا كان الإمام من أهل الأهواء فلا يصلى خلفه ولا الجمعة ، إلا أن يتقيه ، فليصلها معه ، وليعد ظهرا ، ووقف مالك في إعادة من صلى خلف مبتدع ، وقال ابن القاسم : يعيد في الوقت . انتهى .

                                وفي مصنف على مذهب سفيان الثوري : تكره إمامة أهل البدع والأهواء [ ص: 189 ] الداعية إلى ذلك ؛ سئل سفيان عن الصلاة خلف الأمراء الذين يقولون : طاعتنا لله طاعة ، ومعصيتنا لله معصية ؟ قال : كان الحجاج يقول ذلك ، وهم يصلون خلف رافضي أو قدري فليعد الصلاة ، ولا يصلى خلف من يقول : الإيمان قول بلا عمل .

                                وحديث أنس الذي خرجه البخاري في هذا الباب يستدل به على الصلاة خلف أئمة الجور وأعوانهم ؛ وقد جعله البخاري دليلا على إمامة المبتدع - أيضا - كما يطاع في غير معصية ، إذا كان له ولاية على الناس ، فإنه أمر بطاعتهم مطلقا ، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يكون من بعده ولاة يغيرون ويبدلون ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، ولم ينه عن الصلاة وراءهم ، وإنما أمر بالصلاة في الوقت إذا أخر الأمراء الصلاة عن الوقت ، وأمر بالصلاة معهم نافلة ، وقد سبق هذا الحديث في ( المواقيت ) .

                                ويستدل به على صحة الصلاة النافلة خلف الفاجر .

                                ومن أصحابنا من قال : تصح النافلة خلفهم بغير خلاف في المذهب .

                                وقد روي عن أحمد رواية أخرى أنه لا يصلى التراويح خلف من يسكر .

                                وقد روي حديث مرفوع في كراهة الصلاة خلف الفاجر في غير الجمعة .

                                خرجه ابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد العدوي ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا إلى يوم القيامة ، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها ، وجحودا لها ؛ فلا جمع الله له شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج [ ص: 190 ] له ، ولا بركة حتى يتوب ، ألا لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا يؤم أعرابي مهاجرا ، ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وشرطه ) .

                                والعدوي هذا ، قال البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : مجهول ، وقال الدارقطني : متروك .

                                قال العقيلي : وقد روي هذا من وجه آخر يشبه هذا في الضعف .

                                وذكر الدارقطني في ( العلل ) أنه رواه أبو فاطمة مسكين بن عبد الله الطفاوي وحمزة بن حسان ، عن علي بن زيد - أيضا - ، ورواه الثوري عن علي بن زيد أيضا .

                                ثم خرجه من طريق مهنا بن يحيى الشامي - صاحب الإمام أحمد - : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن علي بن زيد ، فذكره مختصرا .

                                وهذا إسناد قوي ؛ إلا أن الحديث منكر ، قاله أبو حاتم الرازي .

                                وقال الدارقطني : هو غير ثابت .

                                وقال ابن عبد البر : أسانيده واهية .

                                قلت : وقد روي أوله من طرق متعددة ، كلها واهية .



                                الخدمات العلمية