الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) .

                          إن هاتين الآيتين مؤيدتان لما قبلهما ومتممتان له ، فإنه بين في الآيات قبلهما أن الظالمين من مشركي مكة جحدوا بآيات الله جحود عناد لا تكذيب ، وضرب لهم مثل الذين كذبوا الرسل من قبل ولم يهتدوا بما أوتوا من الآيات المقترحة ولا غيرها ، بعد هذا بين في هاتين الآيتين أنواعا من آياته تعالى في أنواع الحيوان ، وأن المكذبين بآيات الله لم يهتدوا بها ، بل ظلوا في ظلمات جهلهم حتى كأنهم لم يروها ولم يسمعوا بها .

                          وذكر الرازي في وجه النظم ومناسبة الآية الأولى لما قبلها وجهين : ( الأول ) أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لفعلها ولأظهرها ، إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها ، وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ، ويتفضل عليهم بذلك ، فبين أن الأمر كذلك ، وقرره بأن قال : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم ، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس ، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات ، فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ، ولامتنع أن يبخل بها ، مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمها ومنافعها ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات ; [ ص: 326 ] لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين ، فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها ، والله أعلم .

                          ( الوجه الثاني في كيفية النظم ) : قال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون ، بين أيضا بعده بقوله : ( وما من دابة . . . ) في أنهم يحشرون والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم . انتهى بنصه .

                          والقارئ يرى أن الوجه الثاني الذي اعتمده القاضي من كبار مفسري المعتزلة ليس مبنيا على مسألة خاصة بهم ، وأما الوجه الأول الذي اعتمده الرازي من كبار مفسري الأشعرية ومتكلميهم فهو مبني على مذهب المعتزلة وفريق من أهل السنة دون الأشعرية في رعاية مصلحة المكلفين في أحكام الباري تعالى وأفعاله المتعلقة بشئونهم ، والإمام الرازي قد أثبت المصلحة هنا وفي مواضع أخرى ، ولكنه كثيرا ما يردها أو يرد ما بني عليها ، والذي عليه المحققون أن مسألة الصلاح والأصلح ثابتة لا ريب فيها ، وأن الخطأ والضلال إنما هو في قولهم : إن ذلك واجب عليه سبحانه وتعالى ، وليس عندنا نقل صحيح صريح عن المعتزلة في ذلك ، ونقل المخالف لا يعتد به كما قال الفقهاء ، وإنما يقال في كل ما ثبت له من صفات الكمال وما تتعلق به من الأفعال المطردة أنها واجبة له عليه ; لأنه سبحانه هو الأعلى ، فلا يعلوا عليه شيء من شيء ، ومذهب الأشعرية أن مراعاة المصلحة ليس من الكمال الواجب له تعالى ، ويحتجون على ذلك بأمراض الأطفال والبهائم ، وفي هذه الحجة بحث لا محل له هنا ، وقد أشار الرازي بقوله : " ويتفضل عليهم بذلك " إلى أن مراعاة المصلحة تفضل لا يجب اطراده ، فهو مما يجوز في حقه لا مما يجب في حقه تعالى .

                          وقال أبو السعود في أول تفسير الآية : كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية ، وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة . انتهى . ونقل الألوسي مثله عن الطبرسي ، وقد أخذه أبو السعود من البيضاوي .

                          ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ( الدابة ) ما يدب على الأرض من الحيوان ، والدب والدبيب المشي الخفيف - زاد بعضهم - مع تقارب الخطو ، و ( الطائر ) كل ذي جناح يسبح في الهواء وجمعه طير ، كراكب وركب و ( الأمم ) جمع أمة ، وهي الجيل أو الجنس من الأحياء ، وهذا أحد معاني اللفظ . وقال الراغب : الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما ؛ إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد [ ص: 327 ] سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا ، وجمعها أمم . انتهى . وذكر بعده الآية وكان ينبغي أن يزيد : أو صفات وأفعال واحدة .

                          والمعنى أنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس ، كما يقول العالم بالنبات : ما من شجرة قامت على ساقها وتشعبت في الهواء أغصانها ، ولا نجم نبت في هذه الأرض إلا فصائل لها صفات وخواص مشتركة يمتاز بها بعضها عن بعض ، فالدابة والطائر هنا مفرد اللفظ مراد به الجنس اللغوي ; تقول : طائر الحمام وطائر النحل ، ودابة الحمير ودابة الأرض ، كما تقول : شجرة التين وشجرة الزقوم ، وناهيك بوصف الدابة بكونها في الأرض ، ووصف الطائر بكونه يطير بجناحيه فهو يشعر بذلك وإن كان في وصف الطائر بما ذكر تنصيص على الحقيقة ، وسد لطريق المجاز ، فقد تجوزوا بالطيران عن السرعة ، كما قال الحماسي :


                          قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا

                          .

                          ولاحتمال التجوز بدون القيد المذكور مناسبة قوية وهي عطف الطائر على الدابة إذ هي من الدب الذي هو المشي الخفيف كما تقدم ، ويقابله السريع الذي يشبه بالطيران ، وذكر بعضهم لوصف الطائر بما ذكر نكتة أخرى وهي تصوير هيئة الطيران الغريبة الدالة على قدرة الباري وحكمته لذهن السامع والقارئ ، وهو حسن لا ينافي ما تقدم ، ولا تزاحم بين النكت المتفقة ، ولا بين الحكم المؤتلفة ، ويرى الكثيرون أنه لا مانع من جعل كلمتي دابة وطائر على أصل معناهما وهو الدلالة في سياق النفي على استغراق الأفراد ، وإنما أخبر عنها بالأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم .

                          وأما السمك فهو أقرب إلى الطير منه إلى الدواب ، وله أجنحة قد تسمى الزعانف أكثرها صغير ، ومنها ما هو كبير كجناح الخفاش ، وهو يطير في الماء غالبا وعلى سطحه أحيانا ، وقد يسف إلى قاعه فيلاصق أرضه في سيره فيكون أشبه بالزاحف منه بالطائر ، ولعل حكمة ترك التصريح به قلة من كان يراه ممن نزلت السورة في مخاطبتهم قبل كل أحد بالدعوة إلى الإسلام وإقامة الدلائل عليهم وهم مشركو مكة ، ولمثل هذا المعنى خص دواب الأرض بالذكر ؛ لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ، ويدركون فيها معنى المماثلة دون دواب الأجرام السماوية ، القابلة للحياة الحيوانية ، التي أعلمنا بوجودها في قوله ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ) ( 42 : 29 ) فهي قد ذكرت هنا بالتبع لذكر خلق السماوات والأرض ، فكان الإعلام بها نافلة وفائدة زائدة على ما يقوم به دليل الآية ، وهي من أخبار عالم الغيب وردت بعبارة [ ص: 328 ] تشعر بما يدل عليها من القياس على عالم الشهادة ، وإنما تظهر صحة هذا القياس حتى لغير المؤمن بالقرآن بعد البحث وسعة العلم بالهيئة الفلكية ، وقد علم أهل هذا العلم من المتأخرين أن بعض هذه الكواكب ( كالمريخ ) فيه ماء ونبات ، فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان ، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان ، منها ما يرى على سطحه بالمرآة المقربة ( المرقب - التلسكوب ) من الجداول المنظمة والخلجان ، فالآية التي نفسرها ترشدنا بهذا وبوصف أنواع الحيوان بأنها أمم أمثالنا إلى البحث في طبائع الأحياء لنزداد علما بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه ، ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وحضارة وكمالا ، ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان شيئا فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه .

                          وقد اختلف المفسرون في وجه المماثلة بين الدواب والطير وبين الإنسان ، ففي الدر المنثور عن مجاهد في قوله تعالى : ( إلا أمم أمثالكم ) قال : أصنافا مصنفة تعرف بأسمائها ، وعن قتادة : الطير أمة والإنس أمة والجن أمة ، وعن السدي : خلق أمثالكم ، فالأولان على أن المماثلة بالصفات المشتركة التي يتميز بها بعض الأنواع والأصناف عن بعض ، وهي التي نسميها المقومات والمشخصات ، والثالث : على أن المماثلة في أصل الخلق ، أي كونها مخلوقة مثلنا ، ويتبع ذلك ما يلازمه من حكمة الله وتدبيره فينا وفيها ، ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المراد بالمماثلة أنها تعرف الله وتوحده وتسبحه وتحمده كما يفعل المؤمنون منا ، وتوسع بعضالصوفية في هذا وما قبله ، فقالوا : إنها عاقلة ومكلفة ، وأن لها رسلا منها ، وقيل : إن المماثلة إحصاء الكتاب لجميع الأحوال المتعلقة بحياتها وموتها كالبشر ، وقيل : إنها بحشر الله تعالى إياها كما يحشرنا ، وحسابه لها كما يحاسبنا ، واختار الرازي أنها بعناية الله تعالى ورحمته بها وفضله عليها ، كما تقدم في وجه النظر ومناسبة الآية لما قبلها . ونقل عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ الآية قال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوس ( أي يتزين ) كفعل الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير ؛ فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه ، وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه ، فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها ، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنك - ثم قال - فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر البهائم والسباع ، فبالغ في الحذار والاحتراز . انتهى . وهذا القول - إذا صح دخوله في ضمن الصفات الحيوانية المشتركة بين الإنسان والحيوان - لا يصح أن يكون هو المراد من الآية ، وإن جعل الخطاب بها للمشركين خاصة ; لأن السياق هنا ليس لتحذرهم شر الناس بل لبيان [ ص: 329 ] عدم استعمال عقولهم وحواسهم في آيات الله كقوله : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) ( 7 : 179 ) وقوله : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) ( 25 : 44 ) .

                          والمختار عندنا أن الله تعالى أرشدنا إلى أن أنواع الحيوان أمم أمثال الناس ، ولم يبين لنا وجه المماثلة بينهما ؛ لأجل أن نستعمل حواسنا وعقولنا في البحث الموصل إلى ذلك كما قلنا آنفا ، وللماثلة وجوه كثيرة اهتدى بعض العلماء إلى بعضها ، ويجوز أن يهتدي غيرهم إلى غير ما اهتدوا إليه ، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الأخصائيون في كل علم وفن وتيسرت فيه أسباب البحث ، إذ يوجد في بلاد العلم والحضارة بساتين لتربية أنواع السباع والحشرات والبهائم الوحشية والآنسة والطير والسمك ، فالعلماء الذين يعنون بتربيتها ودرس غرائزها وطباعها وأعمالها في تلك البساتين وفي غيرها قد وصلوا إلى علم جم ، ووقفوا على أسرار غريبة ، ومما ثبت من مشابهة النمل للناس أنه يغزو بعضه بعضا ، وأن المنتصر يسترق المنكسر ، ويسخره في حمل قوته وبناء قراه ، وغير ذلك ، وقد صارت أمم العلم والحضارة تحرص على بقاء كل نوع من أنواع الحيوان ، فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قل في بلادها وخشي انقراضه منها تحرم على الناس صيده ، ولهذا العمل أصل في السنة عندنا ، فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحب أن تقتل الكلاب في المدينة لمثل السبب الذي تقتل به حكومة مصر وغيرها الكلاب الضالة ، بل كان أمر بذلك ثم نهى عنه وقال : " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم " رواه أحمد وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي عن عبد الله بن مغفل ، وعلل قتل الكلب الأسود البهيم في حديث آخر عند أحمد ومسلم بأنه شيطان ، أي ضار مؤذ ، فإن اسم الشيطان يطلق لغة على العارم الخبيث من الإنس والجن والحيوان ، وقد سأل المنصور العباسي عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرف ، فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ، ويروع السائل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية