الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          995 - مسألة : ولا يحل أكل شيء من الحيات ولا أكل شيء من ذوات المخالب من الطير وهي التي تصيد الصيد بمخالبها ، ولا العقارب ، ولا الفئران ولا الحداء ، ولا الغراب .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق مسلم نا شيبان بن فروخ نا أبو عوانة عن زيد بن جبير قال " قال ابن عمر حدثتني إحدى نسوة { النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عليه السلام يأمر بقتل الكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحديا ، والغراب ، والحية ، قال : وفي الصلاة أيضا } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور نا محمد بن جهضم نا إسماعيل وهو عندنا ابن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه قال كان عبد الله بن عمر يوما [ عند هدم له ] رأى وبيص جان فقال : اقتلوا ؟ فقال أبو لبابة الأنصاري : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن صيفي هو ابن أفلح - أخبرني أبو السائب مولى هشام بن زهرة أن أبا سعيد الخدري أخبره " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه } .

                                                                                                                                                                                          فكل ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فلا ذكاة له ، لأنه عليه السلام نهى عن إضاعة [ ص: 74 ] المال ، ولا يحل قتل شيء يؤكل ، وقد ذكرنا في كتاب الحج قوله عليه السلام : { خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم } فذكر العقرب ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب ، والكلب العقور .

                                                                                                                                                                                          فصح أن فيها فسقا ، والفسق محرم قال تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } .

                                                                                                                                                                                          فلو ذبح ما فيه فسق لكان مما أهل لغير الله به ; لأن ذبح ما لا يحل أكله معصية ، والمعصية قصد إلى غير الله تعالى به - : روينا عن عمر بن الخطاب : اقتلوا الحيات كلها .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن مسعود : من قتل حية أو عقربا قتل كافرا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن زهير بن أبي خيثمة نا ابن أبي أويس نا أبي نا يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت : إني لأعجب ممن يأكل الغراب ، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله وسماه فاسقا ، والله ما هو من الطيبات .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شريك عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر قال : من يأكل الغراب ؟ وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا ، والله ما هو من الطيبات .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال : من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : كره رجال من أهل العلم أكل الحداء والغراب حيث سماهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من فواسق الدواب التي تقتل في الحرم .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : قد روي { وترمي الغراب ولا تقتله } ؟ قلنا : رواه من لا يجوز الأخذ بروايته يزيد بن أبي زياد وقد ذكرنا تضعيفه في كتاب الحج وقولنا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          وحرم أبو حنيفة الغراب الأبقع ، ولم يحرم الأسود ; واحتج بأن في بعض الأخبار ذكر الغراب الأبقع . [ ص: 75 ] قال أبو محمد : الأخبار التي فيها عموم ذكر الغراب هو الزائد حكما ليس في الذي فيه تخصيص الأبقع ، ومن قال : إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " الغراب " الغراب الأبقع خاصة ; لأنه قد ذكر الغراب الأبقع في خبر آخر - : فقد كذب ، إذ قفا ما لا علم له به ، ونحن على يقين من أنه قد أمر عليه السلام بقتل الأبقع في خبر ، وبقتل الغراب جملة في خبر آخر ، وكلاهما حق لا يحل خلافه .

                                                                                                                                                                                          وتردد المالكيون في هذه الدواب التي ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وأما العقارب والحيات فما يمتري ذو فهم في أنهن من أخبث الخبائث وقد قال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } .

                                                                                                                                                                                          وأما الفئران فما زال جميع أهل الإسلام يتخذون لها القطاط ، والمصائد القتالة ، ويرمونها مقتولة على المزابل ، فلو كان أكلها حلالا لكان ذلك من المعاصي ، ومن إضاعة المال - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأباحوا أكل الحيات المذكاة ، وهم يحرمون أكل ما ذكي من قفاه ، ولا سبيل إلى تذكية الحيات إلا من أقفائها ؟ قال أبو محمد : وهي والخمر تقع في الترياق فلا يحل أكله إلا عند الضرورة على سبيل التداوي ، لأن المتداوي مضطر ، وقد قال تعالى : { إلا ما اضطررتم إليه } .

                                                                                                                                                                                          وأما ذوات المخالب من الطير - : فلما رويناه من طريق مسلم نا أحمد بن حنبل ، وعبيد الله بن معاذ قال أحمد : نا هشيم أن أبا بشر جعفر بن أبي وحشية أخبره ، وقال عبيد الله : نا أبي نا شعبة عن الحكم بن عتيبة ، ثم اتفق الحكم ، وأبو بشر ، كلاهما عن ميمون بن مهران عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير } .

                                                                                                                                                                                          قال الله تعالى : { وما نهاكم عنه فانتهوا } . [ ص: 76 ] ولا يجوز أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلال - : وبهذا يقول أبو حنيفة والشافعي ، وأحمد ، وأبو سليمان .

                                                                                                                                                                                          وأباح المالكيون أكل سباع الطير ، واحتج بعض من ابتلاه الله تعالى بتقليده بأن هذا الخبر لم يسمعه ميمون بن مهران من ابن عباس وإنما سمعه من سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وأشار إلى خبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود الجحدري عن بشر بن المفضل عن سعيد بن أبي عروبة عن علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن كل ذي مخلب من الطير وعن كل ذي ناب من السباع } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أراد هذا الناقض أن يحتج لنفسه فدفنها ، وأراد أن يوهن الخبر فزاده قوة ، لأن سعيد بن جبير هو النجم الطالع ثقة وإمامة وأمانة ، فكيف وشعبة ، وهشيم ، والحكم ، وأبو بشر ، كل واحد منهم لا يعدل به علي بن الحكم ؟ وأسلم الوجوه لعلي بن الحكم أن لم يوصف بأنه أخطأ في هذا الخبر أن يقال : إن ميمون بن مهران سمعه من ابن عباس ، وسمعه أيضا من سعيد بن جبير عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          قال علي : لا يسمى ذا مخلب عند العرب إلا الصائد بمخلبه وحده .

                                                                                                                                                                                          وأما الديك ، والعصافير ، والزرزور ، والحمام ، وما لم يصد ، فلا يسمى شيء منها ذا مخلب في اللغة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية